للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التحذير من التعمق والخوض في باب القدر بالنظر والفكر والوسوسة]

قال رحمه الله: (لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك) أي: في باب القدر (ذريعة الخذلان) (ذريعة) أي: وسيلة (الخذلان) أي: هو عدم النصر، يعني: سبب لعدم نصر الله عز وجل لعبده، فالخذلان هو ترك النصر، فمن أراد أن يترك الله جل وعلا نصره فلينظر في القدر، وليماحك فيه وليناقش وليتعمق.

قال رحمه الله: (وسلم الحرمان) أي: أنه وسيلة تحصيل الحرمان، والحرمان أصله المنع، والمنع هنا: منع طمأنينة القلب ومنع اليقين والانشراح، فإن من شك في هذا الأمر وعمق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان.

قال: (ودرجة الطغيان) أي: يحصل للإنسان بها الطغيان وهو مجاوزة الحد؛ لأنه إذا كان القدر سراً أخفاه الله عز وجل عن خلقه؛ ولم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فالواجب التسليم والوقوف وعدم تجاوز ما أمر الله به وما أخبر الله به في هذا الشأن.

قال: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً) وقد نصح رحمه الله في هذا التحذير، وفي التكرار للتنفير من النظر في هذا الباب.

(فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) (طوى) أي: أخفى (علم القدر) أي: حقيقته (عن أنامه) أي: عن الخلق (ونهاهم عن مرامه) يعني: عن النظر فيه وعن طلبه.

وقد (خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يخوضون في القدر -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- فغضب غضباً شديداً، كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان) ، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما كتب الله عز وجل، وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) وهذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية؛ وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه.

قال رحمه الله: (كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله عز وجل في حكمه، فمن سأل:لم فعل؟) يعني: إذا قال الإنسان: لم فعل كذا ولم يفعل كذا، فإنه قد رد حكم الكتاب ما حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله لماذا فعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] ، (ومن رد حكم الكتاب) أي: كتاب الله جل وعلا في هذا وفي غيره (كان من الكافرين) أي: من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله عز وجل على وجه الاعتراض كفر بالله عز وجل.

يقول رحمه الله: (فهذا جل ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله عز وجل) يعني: غاية ما نحتاج في مسألة القدر أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد كتب ما علم، وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر، وأنه جل وعلا قد خلق كل شيء، وهذه الأربع المراتب بها يحصِّل الإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنه، ومعنى نظام التوحيد أي: أنه ينتظم التوحيد ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده.

فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر.

هذا ما يحتاجه منور القلب، أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق فهذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكره رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان.

قال: (وهي درجة الراسخين في العلم) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هذه درجة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

<<  <  ج: ص:  >  >>