[اعتقاد سبق علم الله في كل كائن من خلقه]
قال رحمه الله: [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال الله في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:٢] ، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:٣٨]] .
يقول رحمه الله فيما يجب عقده من مسائل القدر: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه) سبق تقرير هذا بأدلته، وأن الله جل وعلا تقدم علمه الخلق، وأنه علم بهم قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى.
ثم قال: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: قدر ما علمه (تقديراً محكماً) أي: متقناً، فالإحكام يطلق على الإتقان، قال الله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:١] (أحكمت) أي: أتقنت، فالله جل وعلا أتقن هذا القدر إتقاناً عظيماً يدل على عظيم قدره جل وعلا وعظيم قدرته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعريف القدر، قال: القدر قدرة الله؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا.
يقول رحمه الله: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: متقناً (مبرماً) أي: لا ناقض له، فما أبرم فهو الشيء الذي أحكم وعقد بما لا نقض له، ولذلك قال رحمه الله بعد أن وصف حكم الله وتقديره بالإبرام: (ليس فيه ناقض) أي: يزيل الحكم بالكلية، فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ لنفوذ قدرته ومشيئته سبحانه وتعالى، فهو ذو القدرة البالغة والمشيئة النافذة سبحانه وبحمده لا إله إلا هو.
(ولا معقب) أي: لا مؤخر يؤخر قدر الله، فإذا جاء أجل الله لا تأخير ولا تقديم، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:٣٨] أي: مكتوب لا يتجاوز هذا ولا يتعداه، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:١١] فالله سبحانه وتعالى لا يؤخر ما قضى وقدر، ولا يستطيع أحد أن يؤخر ما قدره الله جل وعلا وقضاه.
(ولا مزيل ولا مغير) (لا مزيل) أي: لا رافع، فهو في معنى: لا ناقض (ولا مغير) أي: مبدل، ويشمل التخفيف والتحويل والتأخير، فهو أعم من قوله: (ولا معقب) يعني: لا يمكن أن يحول ولا يزول، فهم -أي: الخلق- لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، ولا يملكون كشف ما قدره الله ولا تحويله.
قال رحمه الله: (ولا ناقص ولا زائد) أي: لا ناقص عما كتب في اللوح المحفوظ وما سبق به العلم ولا زائد، بل كل ذلك بتقدير محكم مطابق كما قال الله سبحانه وتعالى: {َمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:١١] .
فكل زيادة في الأعمار وكل نقص فيها سواء في أعمار العموم -أي: جنس بني آدم- أو أعمار الخصوص -يعني: عمر الفرد- من حيث الزيادة أو النقص إلا في كتاب، فإنه لا مبدل لها ولا معقب ولا مزيل ولا مغير.
قال رحمه الله: (من خلقه في سماواته أو أرضه) أي: ليس في حكمه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه.
ثم قال رحمه الله: (وذلك) أي: الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وقدر ذلك قبل خلقهم، وكتب ذلك قبل خلقهم يقول رحمه الله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة) أي: من أصول الإيمان والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، فبهما يكمل للعبد الإيمان.