قال رحمه الله:[وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم] قال: (وأفعال العباد خلق الله) تقدمت أدلة هذا، وأن أفعال العباد خلق له جل وعلا لا يخرج عن خلقه شيء، ومع كونها خلقه سبحانه وتعالى فهي كسب العباد، أي: مضافة إليهم، وقد أضاف الله جل وعلا الأفعال إلى فاعليها، قال سبحانه:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:١٤] ، وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن التي يضيف الله جل وعلا فيها الفعل للعبد، فالفعل خلق الله جل وعلا، وهو كسب للعبد، له عليه قدرة، وله مشيئة، فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وهم وأفعالهم خلق الله جل وعلا، فالعبد ذاته، وفعله، وصفته؛ خلق لله جل وعلا، وأفعال العبد كسبه، فهو الذي فعلها، أي: هو الذي فعلها وباشرها بمشيئته، وإرادته تضاف إليه، وتنسب إليه حقيقة، فالعباد فاعلون لأفعالهم، وتضاف إليهم حقيقة لا على وجه المجاز كما يقوله من يقوله، وهي خلق الله جل وعلا، لا تخرج عن خلقه كما قال الله جل وعلا:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[التكوير:٢٨-٢٩] ، فأثبت في هذه الآية للعبد مشيئة وفعلاً فقال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}[التكوير:٢٨] ، فأثبت مشيئة للعبد، وفعلاً للعبد، ثم أخبر أن مشيئة العبد لا تخرج عن إرادة الله عز وجل، بل مشيئته سبحانه وتعالى محيطة بفعل العبد، لا خروج للعبد عن مشيئته عز وجل كما قال سبحانه وتعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:٣٠] .
وقوله رحمه الله:(وكسب من العباد) رد على الأشاعرة وعلى الجبرية، الأشاعرة يقولون قولاً عجيباً في هذا الأمر! يقولون: الأفعال خلق للرب، كسب للعبد، وما معنى الكسب؟ قالوا: معنى الكسب أنها تضاف إليه مجازاً، وإلا فإن العبد لا قدرة له على فعله، فهم أثبتوا أنها كسب للعبد، ونفوا قدرة العبد على فعل نفسه، فأتوا بقول من أعجب الأقوال؛ ولذلك عد هذا القول من محالات الأقوال التي تحيلها العقول وهي ثلاثة: كسب الأشعري، وطفرة النظار، وأحوال أبي هاشم.
ثم قال رحمه الله:(ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) ، أي: لم يكلف الله جل وعلا الخلق إلا ما يطيقون ويستطيعون، كما قال الله جل وعلا:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] ، وكما قال:{لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[الأنعام:١٥٢] ، فأخبر الله جل وعلا بأنه لا يكلف الناس ما لا يطيقون، كما قال سبحانه وتعالى:{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة:٢٨٦] ، قال الله جل وعلا:(قد فعلت) ، كما في صحيح مسلم، فإن الله فعل ما دعا به المؤمنون:{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة:٢٨٦] ، فدل ذلك أن الله جل وعلا لم يكلف عباده إلا ما يستطيعونه، ويطيقون حمله.
ثم قال:(ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذه الجملة فيها إشكال؛ لأن مفهومها أنهم لا يطيقون إلا ما جرى به التكليف، فالتكليف مساوي وموازي وقد بلغ المنتهى في الطاقة، وهذا ليس بصحيح، بل التكليف دون الطاقة، ويدل لذلك قول الله تعالى:: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] ، انظر في قوله تعالى:{إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] ، فهو يفيد معنى السعة، وأنه ليس في التكليف ما يحصل به على الإنسان ضيق أو حرج، بل التكليف فيه سعة وانشراح، ولا يلحق المكلف به ضيق أو حرج؛ ولذلك نفى الله تعالى الحرج على المكلف في الدين فقال سبحانه وتعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:٧٨] ، فنفى الله جل وعلا الحرج، بل أنفذ التخفيف كما في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النساء:٢٨] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:١٨٥] ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:٧٨] ، والأدلة في هذا كثيرة، بل من أصول الدين نفي الحرج، ولا يمكن مع هذا أن نقول: ولا يطيقون إلا ما كلفهم، بمعنى: لو زاد قليلاً لخرج عن الطاقة، ثم إنه في الواقع أن الإنسان قد يكلف ما يطيقه، لكن يلحقه به مشقة، وهذا ليس في الشريعة منه شيء، فمثلاً لو قيل لك: احمل هذا الدولاب، وأنت تطيق أن تحمله، لكن فيه عليك مشقة وحرج، فهذا لا يخرج عن الطاقة، وتكاليف الشريعة في الجملة ليست من هذا، إنما تكاليف الشريعة في الجملة هي مما يطيقه الإنسان، ولا يلحقه بفعله حرج أو ضيق، وانتبه لقوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] ، والوسع يقتضي السعة والراحة والانشراح، فهذه الجملة لعل المؤلف رحمه الله أراد تأكيد معنى: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، لكنه لم يحرر العبارة، فالعبارة فيها إشكال، على أن بعضهم فسر قوله:(ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فسر الطاقة هنا بالقدرة المقارنة للفعل، لكن هذا فيه تكلف، وقد علق شيخنا الشيخ/ عبد العزيز رحمه الله على هذه العبارة بأن فيها نظراً، والنظر ما بيناه آنفاً.