وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الميثاق، هل هو ما جاء في بعض الأحاديث كما في حديث ابن عباس:(أن الله سبحانه وتعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم، ونثرهم بين يديه كالذر، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي: أقروا له بالربوبية سبحانه وتعالى؟ على هذا حمل جماعة من العلماء الميثاق في هذه الآية وفسروه به، فقالوا: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الأعراف:١٧٢] هو ما أخذه الله تعالى في عالم الذر مما كان قبل خلقهم.
وهذا الميثاق هل يذكره الناس أو لا يذكرونه؟
الجواب
أنهم لا يذكرونه، ولا إشكال في أنه ما من أحد يذكر هذا الميثاق الذي أخذه الله عليه في عالم الذر، ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم هو ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو المشار إليه في قوله تعالى:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:٣٠] ، وهو المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(ما من مولود إلا يولد على الفطرة) فالفطرة: هي الإقرار بالرب جل وعلا، وهو المشار إليه فيما رواه الإمام مسلم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء -أي: على التوحيد- فاجتالتهم الشياطين) أي: صرفتهم، وهذا أمر لا ينكره أحد، بل هو مما ركز في الفطر، ولذلك كان المشركون إذا سئلوا: من الخالق؟ من الرازق؟ من المالك؟ من المدبر؟ كانوا يجيبون: الله، وهذا إقرار منهم بمقتضى الميثاق الذي واثقهم الله وفطرهم عليه، وهذا الذي ذهب إليه جماعة من العلماء: منهم شيخ الإسلام رحمه الله، ومنهم ابن القيم، وأن الميثاق ليس ما جاء في بعض الأحاديث: من أنه أخرجهم من ظهر أبيهم في عالم الذر وأخذ عليهم الميثاق، قالوا: ومما يدل على ذلك: أولاً: أن الأحاديث التي وردت فيها ضعيفة، وأن هذا الميثاق لا يذكره أحد، والله سبحانه وتعالى قال في الآية ما يدل على أن هذا الميثاق حاضر في أذهانهم لا يغيب عنهم، فقال سبحانه وتعالى:{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:١٧٢] يعني: لئلا تقولوا {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:١٧٢] ، ومعنى الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا}[الأعراف:١٧٢] يعني: هذا الأخذ من ظهور بني آدم علته وسببه: أن لا يقول الناس يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف:١٧٢] ، وهل يذكر الناس هذا الميثاق؟ الجواب: لا.
فإذا كانوا لا يذكرونه في الدنيا فالغفلة عنه وعدم ذكره في الآخرة من باب أولى، وهذا مما يؤيد أن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل هو ميثاق الفطرة، وليس الميثاق الذي جاء في حديث ابن عباس لضعف الحديث.