فتقول ما قلتَ مُتَمَكِّنًا، فيَعُون مقالتَك، ويضعونها مواضِعَها، فقال عمر: لئن قَدِمْتُ المدينةَ صالحًا لأُكَلِّمَنّ بها النّاسَ في أوّل مقامٍ أَقومُه.
فَلما قَدِمنا إلى المدينة في عَقِبِ ذي الحجّة، وكان يوم الجمعة، عجّلتُ الرَّواح صَكَّةَ الأعمى - قلتُ لمالك: وما صكّة الأعمى؟ قال: إنه لا يبالي أَيَّ ساعة خرج، لا يعرف الحر والبردَ ونحو هذا - فوجدْتُ سعيدَ بن زيد عند رُكن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلستُ حِذاءَه تَحُكُّ ركبتي ركبتَه، فلم أَنْشَبْ أَن طلع عمر، فلما رأيتُه قلتُ: ليقولَنّ العشيَّةَ على هذا المِنبر مقالةً ما قالها عليه أحدٌ قبله، قال: فأَنكر سعيدُ بن زيد ذلك، فقال: ما عسيتَ أَن يقول ما لم يقلْ أَحد؟
فجلس عمر على المنبر، فلما سَكَتَ المؤذِّنُ قام، فأَثنى على اللَّه بما هو أَهلُه، ثم قال: أَما بعدُ، أيّها النّاس، فإني قائلٌ مقالةً قد قُدِّر لي أَن أقولَها، لا أدري لعلَّها بين يدَيْ أَجَلي، فمن وعاها وعَقَلَها فليحدِّث بها حيثُ انتهتْ به راحلتُه، ومن لم يَعِها فلا أَحِلُّ له أن يَكْذِبَ عليّ:
إنّ اللَّه تبارك وتعالى بعثَ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحق، وأَنزل عليه الكتابَ، وكان فيما أُنْزِلَ عليه آية الرَّجم قرأْناها ووعَيْناها، ورجمَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورجَمْنا بعدَه، فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: لا نجدُ آية الرجم في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، فيَضِلُّوا بترك فريضةٍ قد أَنزَلَها اللَّه عزّ وجلّ، فالرجمُ في كتاب اللَّه حقٌّ على من زَنَى إذا أَحصنَ، من الرّجال والنساء، إذا قامت البيّنةُ أو الحبَل أو الاعِترافُ، ألا وإنا قد كنّا نقرأُ:(لا ترغبوا عن آبائِكم، فإنّ كُفْرًا بكم أَن ترغبوا عن آبائكم)(١).
إلا وإنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:"لا تطْرُوني كما أُطْرِيَ عيسى ابنُ مريم، فإنّما أنا عَبْدُ اللَّهِ، نقولوا: عَبْدُ اللَّه ورَسُولُه".
وقد بلَغني أَن قائلًا منكم يقول: لو قد مات عمرُ بايَعْتُ فلانًا: فلا يَغْتَرَّنَّ امرؤٌ أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر رضي اللَّه عنه كانت فَلتَةً، ألا وإنها كانت كذلك، ألا وإنّ اللَّه عزّ وجلّ وقَى شرَّها، وليس فيكم اليومَ من تُقْطَعُ إليه الأَعناقُ مثل أبي بكر، ألا وإنه كان من خَبَرِنا حين تُوُفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن عليًّا والزبير ومن كان معهما، تَخَلَّفوا في بيت فاطمة
(١) وهذا مما نُسخ تلاوته وبقي حكمه. ينظر الفتح ١٢/ ١٤٣، والدرّ المنثور ٥/ ١٧٩.