الحمد للَّه العظيم، الذي أنعم بالقرآن الكريم، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد خاتم النبيّين والمرسلين، بلّغَ ما أُنزلَ إليه من ربّه، ووضّحَ للأمّة دينَها، وأبان لها طريقَها، وترك فيها ما لو تَمَسَّكَتْ به لن تَضِلّ: كتاب اللَّه وسنّته.
لقد أجمع المسلمون على أنَّ حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب اللَّه تعالى، وكان هذا دافعًا لهم للعناية بالحديث، جَمعًا وتصنيفًا. وتعدّدت الكتب في ذلك، وتنوّعت مناهجها وطرقها. واجتهد المتأخّرون من أئمّة هذا الفنّ في ترتيب هذه الكتب والجمع بينها، وهو من مظاهر تقدير الحديث الشريف ومعرفة مكانته.
وبين أيدينا كتابٌ نقدِّمه ونقدِّمُ له، وهو "جامع المسانيد"، جمع فيه مؤلِّفُه ابن الجَوزي بين أربعة من كتب الحديث، رأى أنّها تحتوي على معظم حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّ لها العُلُوَّ في الإسناد، فأحبَّ أن يجعلَها في كتاب واحد: وهي مسند الإمام أحمد، وصحيحا الإمامين البخاري ومسلم، وجامع الإمام الترمذي.
وقد بدأتْ صلتي بهذا الكتاب منذ عَقدين، عندما كنت معنيًّا بفهرسة مخطوطات جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلاميّة في الرياض، فقد صُوّر للمكتبة مخطوطات من مكتبات الهند، وكان في هذه المجموعة جزآن من الكتاب. فلمّا اطّلَعتُ عليه، شَرَعْتُ أسأل عند وأسائل، فكانت الدهشةُ أن جَهِلَ الكتابَ كثيرٌ من المعنيين بالمخطوطات والمختصّين بالحديث، ومن سَمعَ بالكتاب لا يكاد يعرف شيئًا عن مكانه. وعند بدء ظهور الطبعة المحقّقة من "المسند" عن مؤسسة الرسالة، ذكر محقّقوه في المقدّمة أنّهم لم يحصلوا من "جامع المسانيد" لابن الجوزيّ إلا على مقدّمته في خمس أوراق. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم توفر نسخ الكتاب، وإلى تبعثر أجزائه، وربما كان كتاب "جامع المسانيد" لابن كثير هو الذي يعرف ويشتهر، حتى إنني عند السؤال عن كتاب ابن الجوزيّ، أُجاب بأن الجامع لابن كثير، ويقال لي: إن الكتاب طبع أو يطبع - ويعنون بذلك جامع ابن كثير.