فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا له: أيّها الملك، إنه قد صَبَأَ إلى بلدك منّا غلمان سفهاءُ فارقوا دينَ قومِهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لِتَرُدَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيءٌ أبغضَ إلى عبد اللَّه ابن أبي ربيعة وعمرو بن العاص أن يسمع النجاشيُّ كلامهم. فقالت بطارقتُه حولَه: صدقوا أيّها الملك، قومُهم وأعلى بهم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسْلِمْهم إليهما فلْيَرُدّاهم إلى بلادهم وقومهم. قال: فغضب النجاشيّ ثم قال: لاها ايم اللَّه إذًا، لا أُسْلِمُهم إليهما، ولا أُكادُ، أقوامًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني علي مَنْ سواي حتى أدعوَهم فأسألَهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمْتُهم إليهما وردَدْتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنَعْتُهم منهما وأحسنْتُ جِوارَهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللَّه فدعاهم، فلمّا جاءهم رسولُه اجتمعوا ثم قال بعضهم: ما تقولون للرجل إذا جِئْتموه؟ قالوا: نقول واللَّه ما عَلِمنا وما أمرَنا به نبيُّنا -صلى اللَّه عليه وسلم-، كائنٌ في ذلك ما هو كائن. فلمّا جاؤوه وقد دعا النجاشيّ أساقِفتَه، فنشروا مصاحفهم حوله. سألَهم فقال: ما هذا الذي فارقْتُم فيه قومَكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحدٍ من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلَّمَه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له:
أيُّها الملك، كُنّا قومًا أهلَ جاهليّة، نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ المَيتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحام، ونُسيء الجِوارَ، يأكلُ القويّ منّا الضعيفَ، فكُنّا على ذلك حتى بعثَ اللَّهُ عزّ وجلّ رسولًا منّا نعرِفُ نسبَه وصِدقَه وأمانته وعفافَه، فدعانا إلى اللَّهِ لنُوَحِّدَه ونعبُدَه، ونخلعَ ما كُنا نعبُدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرَّحِمِ، وحُسن الجوار، وكفٍّ عن المحارم والدّماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزُّور، وأكل مال اليتيمَ، وقذف المُحْصَنة. وأمرَنا أن نعبدَ اللَّهَ لا نُشركُ به شيئًا، وأمرَنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام -قالت: فعدَّدَ عليه أُمورَ الإسلام- فصدَّقْناه وآمنا به واتَّبَعْناه على ما جاء به، فعبدْنا اللَّهَ وحده ولم نشرك به شيئًا، وحرَّمْنا ما حرَّم علينا، وأحْلَلْنا ما أحلَّ لنا. فعدا علينا قومُنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا لِيَرُدُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه عزّ وجلّ، وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا.