قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - يسنّم القبر ليعرف، كي يحترم، ويمنع من الارتفاع الكثير، الذي كانت الجاهلية تفعله، فإنها كانت تعلي عليها؛ وتبني فوقها تفخيما لها وتعظيما؛ وأنشدوا:
أرى أهل القصور إذا أميتوا … بنوا فوق المقابر بالصخور
أبو إلا مباهاة وفخرا … على الفقراء حتى في القبور
لعمرك لو كشفت الترب عنهم … فما تدري الغنيّ من الفقير
ولا الجلد المباشر ثوب صوف … من الجلد المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا … فما فضل الغنيّ على الفقير؟
يا هذا، أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال؟ لقد أصبحت كفّك منه عند الموت خالية صفرا، وبدلت من بعد غناك وعزّك ذلا وفقرا، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره، ويا من سلب من أهله ودياره؟ ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد، إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، أو ما علمت يا مغرور! أن لا بد من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس ينفعك ثمّ قيل ولا قال، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان، ما بطشت اليدان، ومشت القدمان ونطق به اللسان، وعملت الجوارح والأركان، فإن رحمك فإلى الجنان، وإن كانت الأخرى فإلى النيران، يا غافلا عن هذه الأحوال! إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتحسب أن الأمر صغير، وتزعم أن الخطب يسير؟ وتظن أن سينفعك حالك، إذا آن ارتحالك، أو ينقذك مالك، حين توبقك أعمالك، أو يغني عنك ندمك، إذا زلّت بك قدمك، أو يعطف عليك معشرك، حين يضمك محشرك، كلا والله ساء ما تتوهّم، ولا بد لك أن ستعلم، لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعضاة تستمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تنقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، يا نائما في غفلة وفي خبطة يقظان، إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتزعم أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غدا، أم تحسب أن الموت يقبل الرّشا، أم تميز بين الأسد والرّشا، كلا والله لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور إلاّ العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقّق ما ادّعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾
(١) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (٤٢١) عن صالح بن أبي الأخضر. وصالح؛ ضعيف.