للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنان فرسه لينصرف، فقال له ابنه عبد الله: إلى أين؟ قال: أذكرني عليّ كلاما قاله له رسول الله . قال: كلا؛ ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا، ويحملها رجال شداد. قال: ويلك ومثلي يعير بالجبن هلم الرمح فأخذ الرمح وحمل في أصحاب علي. فقال علي: افرجوا للشيخ فإنه محرج فشقّ الميمنة والميسرة والقلب، ثم رجع وقال لابنه: لا أمّ لك أيفعل هذا جبان وانصرف. وقامت الحرب على ساق، وبلغت النفوس إلى التراق، فأفرجت عن ثلاثة وثلاثين ألف قتيل وقيل عن سبعة عشر ألفا، وفيه اختلاف فيهم من الأزد أربعة آلاف ومن ضبة ألف ومائة وباقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة، وقتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل، وقيل: أقل. وقطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبة.

كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر وهم ينشدون:

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل … ننازل الموت إذا الموت نزل

والموت أشهى عندنا من العسل

وكان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل وكانوا ألبسوه الأدراع (١).

وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم، لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح والتفريق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكّن منهم والإحاطة بهم؛ فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدوا في الحرب شجرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر عليّ: غدر طلحة والزبير، والذي في عسكر طلحة والزبير: غدر عليّ، فتم لهم ما أرادوه، ودبّروه؛ ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه، ومانعا من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين، وطاعة لله، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذا السبيل، وهذا هو الصحيح المشهور (٢). وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قرب العصر لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين.


(١) الخبر في «تاريخ الطبري» (٤/ ٥١٨). وفيه مبالغات غير صحيحة.
وانظر للصواب من هذه الروايات، وبيان صحيحها من سقيمها؛ كتاب «استشهاد عثمان ووقعة الجمل» لخالد بن محمد الغيث. ط. دار الأندلس الخضراء، بجدة.
(٢) وقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾. الآية [سورة الحجرات: ٩].
فسمّى الله الطائفتين «مؤمنين»، فلا داعي للشنشنة والقعقعة بعد ذلك في هذا الأمر.
وما ذكره القرطبي هنا من الكلام؛ نفيس ومتين، فتدبّره واحفظ، والله الهادي والموفق.

<<  <  ج: ص:  >  >>