للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

داري وبتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت القبر، لعلي أجد أحدا من زوّار القبور فأعلمه بما رأيت ثم نمت، فإذا أنا بصاحب القبر قد قرن بين قدميه، وهو يقول:

ما أغفل أهل الدنيا عني، ضوعف عليّ العذاب، وتقطّعت عني الحيل والأسباب، وغضب عليّ ربّ الأرباب، وغلق في وجهي كل باب، فالويل لي إن لم يرحمني ربي العزيز الوهاب.

قال الحارث: فاستيقظت من منامي مرعوبا، وهممت بالانصراف فإذا بثلاث جوار قد أقبلن، فتباعدت لهن عن القبر وتواريت لكي أسمع كلامهن، فتقدمت الصغرى ووقفت على القبر وقالت: السلام عليكم يا أبتاه! كيف هدوؤك في مضجعك؟ وكيف قرارك في موضعك؟ ذهبت عنا بودّك، وانقطع عنا سؤالك، فما أشد حسرتنا عليك، ثم بكت بكاء شديدا. ثم تقدّمت بنتان فسلّمتا على القبر، ثم قالتا: هذا قبر أبينا الشفيق علينا، والرحيم بنا، آنسك الله بملائكة رحمته، وصرف عنك عذابه ونقمته، يا أبتاه! جرت بعدك أمور لو عاينتها لأوهمتك، ولو اطلعت عليها لأحزنتك، كشف الرجال وجوهنا وقد كنت أنت سترها.

قال الحارث: فبكيت لما سمعت كلامهن. ثم قمت مسرعا إليهن، فسلمت عليهن، وقلت لهن: أيتها الجواري! إن الأعمال ربما قبلت، وربما ردّت على صاحبها، فما كان عمل أبيكنّ المخلّد في هذا القبر، الذي عاينت من أمره ما أحزنني، واطلعت من حاله على ما آلمني؟

قال الحارث: فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن وقلن: أيها العبد الصالح؛ وما الذي رأيت؟ قلت لهن: لي ثلاثة أيام وأنا أختلف إلى هذا القبر، أسمع صوت المقمعة والسلسلة فيه، قال: فلما سمعن ذلك مني قلن لي: بشارة ما أضرها، ومصيبة ما أحزنها، نحن نقضي الأوطار، ونعمر الديار، وأبونا يحرق بالنار، فو الله لا قربنا قرار، ولا ضمتنا للذة العيش دار، أو نتضرع للجبار، فلعله أن يعتق أبانا وينقذه من النار، ثم مضين يتعثرن في أذيالهن.

قال الحارث: فمضيت إل داري فبتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت القبر فجلست عنده، فغلبني النوم فنمت، فإذا أنا بصاحب القبر له حسن وجمال، وفي رجليه نعل من ذهب، ومعه حور وغلمان.

قال الحارث: فسلّمت عليه، وقلت له: رحمك الله من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي عاينت من أمري ما أحزنك، واطّلعت منه على ما أفجعك، فجزاك الله خيرا فما أيمن طلعتك عليّ، فقلت له: وكيف حالك؟ فقال لي: لما اطلعت عليّ وأخبرت بناتي بالأمس بحالي، أعرين أبدانهن وأسبلن شعورهن وتضرعن لمولاهن، ومرّغن

<<  <  ج: ص:  >  >>