للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكانت الربذة [١] على طريقنا، فخرجت امرأة طويلة ذات منطق حلو ولسان عذب، على ما بها من رثاثة الهيئة وقشف البادية، فقلت: ما الاسم؟ قالت:

ميّة، فسألت عن حالهم، فقالت: نحن في قانت [٢] من العيش، بقنيص الظباء بشرك، فمنها قوتنا، قلت: فالصيد ليس بموثوق دوامه، ولا بمأمول انصرامه، قالت: فورق الطلح [٣] نخبطه [٤] ونتبلّغ به، قلت: فالماء؟ فناولتني من سقاء معها زعاقا [٥] يفقأ عين الطير، فرثيت لأبي ذر رحمه الله حين بلي بشربه، فقلت: أتجردون [٦] ؟ فتأوهت وقالت: واخصباه، وأين الجراد، كنا نجنيه برهة ونأكل منه وندّخر، وقد انقطع الآن بسوء النيّة وقلّة الشكر.

وأحرم الناس، فرأيت [٩٦ و] صفات المحشر، خلقا عراة حفاة يجأرون إلى الله عزت قدرته بالتلبية والبكاء والاستغفار.

ولبني هذيل من ذات عرق إلى مكة في تلك المضايق سطوة بالنبال من شعف الجبال، وبطون الأودية والرمال.

وأدّينا فرائض الحج بمقتضى الكتاب والسنّة، وأقبلت عساكر مصر مع القائد لمفضل المغربي، في أطهر زينة، وأقيمت الخطبة للإمام الحاكم بأمر الله [٧] ، وأفيضت على الأئمة والقضاة وسدنة البيت رسومهم من الجوائز


[١] الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبهذا الموضع قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، واسمه جندب بن جنادة. (ياقوت: الربذة)
[٢] عيش قانت: قليل الأكل.
[٣] الطلح: شجر عظام من شجر العضاه ترعاه الإبل.
[٤] نخبطه: أي نضرب الشجرة بالمخبط، العصا ليسقط ورقها فيؤك.
[٥] زعاقا: مرّا غليظا لا يطاق شربه، الزعاق من الماء: المر الغليظ، ومن الطعام:
الكثير الملح.
[٦] تجردون: تأكلون الجراد.
[٧] الحاكم بأمر الله: منصور بن نزار بن معد العبيدي الفاطمي، متأله غريب الأطوار، من خلفاء الدولة الفاطمية بمصر، ولد في القاهرة، وسلم عليه بالخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٣٨٦ هـ وعمره إحدى عشرة سنة، عني بعلوم الفلسفة والنظر في النجوم، وعمل رصدا، واتخذ بيتا في المقطم ينقطع فيه عن الناس، وأعلنت الدعوة إلى تأليهه

<<  <   >  >>