للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو في الحبس مقيّدا. فلمّا حضر وقت الصلاة رأيته نهض، فتطايرت منه القيود وتوضّأ وهو على طرف المحبس، وفي صدر ذلك المحبس منديل. وكان بينه وبين المنديل مسافة، فواللّه ما أدري أن المنديل قدم إليه أو هو إلى المنديل!

فتعجّبت من ذلك وهو يبكي بكاء فقلت له: لم لا تخلّص نفسك؟ فقال:

ما أنا محبوس! أين تريد يا ابن خفيف؟ قلت: نيسابور! فقال: غمّض عينيك! فغمّضتهما. ثمّ قال: افتحهما. ففتحت فإذا أنا بنيسابور في محلّة أردتها.

فقلت: ردّني. فردّني وقال:

واللّه لو حلف العشّاق أنّهم … موتى من الحبّ أو قتلى لما حنثوا

قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا … ماتوا وإن عاد وصل بعده بعثوا

ترى المحبّين صرعى في ديارهم … كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

ثمّ قال: يا ابن خفيف، لا يكون الحزن إلّا لفقد محبوب أو فوت مطلوب! والحقّ واضح والهوى فاضح. والخلق كلّهم طلّاب وطلبهم على قدر هممهم، وهممهم على قدر أحوالهم، وأحوالهم مطبوعة على علم الغيب، وعلم الغيب غائب عنهم، والخلق كلّهم حيارى. وأنشأ يقول:

أنين المريد لشوق يزيد … أنين المريض لفقد الطّبيب

قد اشتدّ حال المريدين فيه … لفقد الوصال وبعد الحبيب

ثمّ قال: يا ابن خفيف، حججت إلى زيارة القديم فلم أجد لقوم موضعا من كثرة الزائرين، فوقفت وقوف البهيت، فنظر إليّ نظرة فإذا أنا متّصل به، ثمّ قال: من عرفني ثمّ أعرض عني فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين.

وجعل يقول:

عذابه فيك عذب … وبعده منك قرب

<<  <   >  >>