الناحية الفلسفية، وأن مثل هذه الخيالات هي التي تقود الناس دائماً، وأن أمر النظم السياسية والاجتماعية التي وقت البشر حتى الآن قد استقام بفضلها، وأن عظمة الرومان قامت على عبادة رومة على الخصوص، وأن رومة كانت سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل زيادة سلطانها.
وكانت الأمم الإغريقية الرومانية والآسيوية، وقت ظهورِ محمدٍ، قد فَقَدَت مُثُلَها العليا منذ زمن طويل، فلم يبقَ لحبِّ الوطن، وعبادة الآلهة أثرٌ في نفوس أبنائها، وكانت الأثَرَة كلَّ ما في قلوب هؤلاء الأبناء، والأثرَةُ إذا كانت دليلَ قومٍ عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.
وقد استطاع محمد أن يبدع مثلاً عالياً قوياً للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص، وذلك المثل الأعلى الجديد هو من الخيالات لا ريب، شأن الممثل العليا التي ظهرت قبله، ولكنك لا تجد من الحقائق ما هو قوي قوة هذه الخيالات، ولم يتردد أتباع النبي في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى طامعين في الجنة التي لا يعدلها شيء من متاع هذه الحياة الدنيا.
ولم يلبث الإسلام أن من على جميع الشعوب التي خضعت لسلطانه مثل ما منت به عظمة رومة على الرومان، فمنح تلك الشعوب مصالح مشتركة، وآمالاً مشتركة موجها بذلك جهودها نحو غرض واحد مع أنها كانت ذات مصالح مختلفة قبل ذلك.
شكل ٣ - ٢: قطعة من نقود الخليفة الأموي هشام، بدمشق (? ? ? هـ/? ? ٥ م).
وإن وحدة المصالح والمعتقدات، وإن كانت تؤدي إلى تجانس الأمة، لا تعطيها من الوسائل ما تقر به على الفتح العالمي، ولو كانت أركان العالم متداعية كالدولة الإغريقية الرومانية والدولة الفارسية في زمن ظهور محمد، فقد كانت تانك الدولتان مرهوبتين