ويتطلب كسب هذه الأخلاق والصفات زمناً طويلاً جداً، والصفات الموروثة إذا كانت لا تستقر إلا ببطوء فإنها لا تزول إلا ببطوء، وبأقصى البطوء تندمج العروق وتتحول، ويجب، لكي يكون للبيئات والتوالد أبلغ الأثر في تكوين العرق، أن يتوالى التطور، ويتراكم بفعل الوراثة المتتابعة المستمرة قروناً كثيرةً سائراً نحو غرض واحد.
ويعدون البيئة، في الغالب، من العوامل التي تستطيع تحويل صفات العرق وإثباتها، ولكن الوراثة التي تتراكم بها أخلاق العرق وسجاياه وترسب مع الزمن أقوى من البيئة وأعظم أثراً، فقد دلت حوادث التاريخ على أن العرق إذا ما استقرت أخلاقه وسجاياه بالوراثة وبلغ من الكبر عتياً عجزت البيئة عن التأثير فيه، وصار أهون عليه أن ينقرض من أن يتحول، من أجل ذلك نرى بني إسرائيل يحافظون على مثالهم الثابت في كل قطر، ومن أجل ذلك أيضاً تعذر على بلاد مصر الحارة، مع ما فيها من قوة صهر، أن تُحوِّل العروق المسِنَّة التي استولت عليها واحداً بعد الآخر فكانت قبراً لكل واحد فيها.
وإنما تؤثر البيئات في العروق الحديثة، أي العروق التي تنشأ عن توالد مختلف الأمم ذات الصفات المتباينة، فإذا ما فلت الوراثةُ الوارثةَ وانحلت بذلك مقومات الماضي القديمة الموروثة بفعل الوراثة الجديدة خلا الميدان للبيئة وقامت بعملها.
والتوالد، لكي يكون مؤثراً، يجب أن يتكرر، وألا تتفاوت كثيراً نسب من يتوالدون من أفراد مختلف العروق، وإذا عظم التفاوت في نسب العناصر المتوالدة كانت الغلبة لصفات العرق الوافر العدد، لا لصفات العرق القليل العدد الذي لا يبقى له أثر من حيث النتيجة، وقد دل الاستقراء على أن رهطاً من البيض لم يلبث أن يزول أثره بعد بضعة أجيال إذا ما توالد هو وقوم من الزنوج، وأن صفات أمةٍ مقهورة صغيرة تزول بالتوالد أمام صفات أمةٍ منتصرة كبيرة.
ومن الأمثلة على ذلك أغارقة الوقت الحاضر الذي لا يمتون إلى أجدادهم الذين خلدتهم التماثيل بوجه شبهٍ، ومن تلك الأمثلة رومان بلاد الغول الذين، وإن كنا وارثين لحضارتهم ولغتهم، لم يبق لدمائهم أثرٌ في عروقنا، ومنها أيضاً حال العرب في مصر، فسوف ترى أن المصريين الذين تمردوا على حضارة الفرس واليونان والرومان ولغاتهم انتحلوا لغة العرب ودينهم وتمدنهم، وأن مصر غدت بذلك أشدَّ البلاد التي دخلت في دين محمد عروبة، وأنه، مع كثرة توالد المصريين والعرب الفاتحين وظهور مثال جديد اختلف عن الأصل بعد انقضاء جيلين أو ثلاثة أجيال، أي تفوق نسبة المصريين العديدة