للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصيني على حق في تفكيره ذلك لا ريب، فهو لا يُدرِك أن الإنكليزي يَحُوز، بالوراثة، حِكَماً أخلاقية شديدة خاصة لا بد له من اتباعها، وذلك بأن ينفق على المبشرين ليُعِدُّوا الآسيوي للحياة الأبدية التي يسوقه إليها بسرعة ذلك الأفيون الذي يبيعونه منه!

واستوقفت بغضاء الشرقيين للأوربيين نظرَ جميع السياح المتصفين بشيء من الملاحظة، وأذكر منهم السياسي الممتاز والوزير المفوض السابق، مسيو دورُو شِيشُوَار، الذي قال في كتاب نشره حديثاً: «إن أول ما يراه الغريب حينما تطأ قدماه بلاد الهند هو كره الهندي لسادته»، إلى أن قال في معرِض كلامه عن الصين: «إن أجراء البيض شديدو الحياء من أبناء وطنهم؛ لاضطرارهم إلى الاتصال بالبيض.»

وإن للشرقيين في سلوكنا ما يُسَوِّغ مقتَهم لنا أشدَّ المقت بما فيه الكفاية، وإنني أضع نفسي في مكانهم وأنظر إلى الأمور من وِجْهَة نظرهم، وأضيف إلى ذلك، غير متردد، قولي: إننا لو بَدَونا عنوان الفضائل لهم؛ لكان من مصالحهم أن يَرْفِضونا، وأن يحيطوا بلادهم بأسوار كالتي أحُيطت بها مملكة ابن السماء، فما يصنعون بحضارة غير ملائمة لأفكارهم ومشاعرهم واحتياجاتهم جديرة، لذلك، بأن يرفِضوها؟ وما فائدتهم من ترك نظمهم الموروثة وحياتهم السعيدة القليلة الاحتياجات وانتحالهم لحياتنا المحمَّة ولمنازعاتنا التي لا يُشفَى لها غليل، ولنظام طبقاتنا الاجتماعية المتفاوتة، ولعيشنا الكريه في المصانع، ولكل ما تطلبه الحضارات الزاهية من مختلف الاحتياجات؟

وعن لليابان، أي لهذه الدولة الشرقية، أن تعتنق حضارتنا كما قيل، وأتيح لي أن أذكر ما أسفرت عند هذه التجربة من الارتباك في بلاد اليابان التي كانت سعيدةً، والتي «حال الواحد من سكانها تعد أفضل مائة مرةٍ من حال العامل المعوز اللاهث التعب الذي يكسب عيشه بعناء في المصانع»، كما قال أحد الأوربيين الذين عهد إليهم في إدخال الحضارة المصنوعة إليها.

ولم ينشأ عن افتتاح العرب للشرق مثل هذه الشرور، فقد كانت الأمم التي قهروها شرقيةً مثلهم، وكانت مشاعرها واحتياجاتها وطرق معايشها مماثلةً لما كان عندهم، ولم ينشأ عن استيلاء العرب أو المغول أو الترك على الهند وفارس ومصر العليا من التغييرات الأساسية كما ينشأ عن انتحال أهل هذه البلدان للحضارة الحديثة، ولا بد من أن تنال يد التبديل التامِّ حياة هذه الأمم الشرقية عند اتصالها بالأوربيين، ولكن عجز الأمم الشرقية عن منافسة الأوربيين يؤدي حتمًا إلى مثل ما صار إليه الهندوس من البؤس الأسود والثورات الشديدة التي يولدها اليأس.

<<  <   >  >>