ولكن لوبون، الذي ذكر استعداد العرب القيام برسالتهم العظمى، أشاد بفضل الرسول الأعظم على العرب، وزعامته الكبرى لهم، فالرسول في نظره «كان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلاً إذا ما نصر»، وذهب لوبون إلى أن الرسول الأعظم «كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صموتاً حازماً، سليم الطوية ... صبوراً قادراً على احتمال المشاق، ثابتاً بعيد الهمة، لين الطبع وديعاً ... وكان مقاتلاً ماهراً، فكان لا يهرب أمام المخاطر، ولا يُلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خُلُق الشجاعة والإقدام في بني قومه ... وكان عظيم الفطنة».
ورأى لوبون أن السيد الرسول الذي كانت تلك صفاته أتى العرب، الذين لا عهد لهم بالمثل العليا، بمثل عالٍ اهتدوا به، فاكتسب العرب بهذا المثل العالي آمالاً متماثلة، وتوجهت به جهودهم إلى غرض واحد، وصاروا مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره في أنحاء الدنيا، ثم قال:«إن محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيماً ... وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ ... والتعصب الديني هو الذي أعمى بصائر مؤرخي الغرب عن الاعتراف بفضل محمد».
٣
قامت عظمة الرومان على عبادة رومة، وكانت رومة سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل عظمتها، ثم فقدت الأمم الإغريقية والرومانية والآسيوية مثلها العليا، ولم يبق لحب الوطن والدين والاستقلال والأمة والمدينة أثر في نفوس أبنائها، وصارت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء، «والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قومٍ آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم».
وصار العرب أمةً واحدةً يفضل الإسلام، وأصبح الإسلام مثل العرب الأعلى، واكتسب العرب به من الحمية ما استعدوا معه لفتح العالم إعلاءً لشأنه بقيادة زعمائهم الماهرين.
ولم تكن جزيرة العرب قبل الإسلام سوى ميدان حرب دائم واسع لما تأصل في العرب من الطبائع الحربية، فقد جاء الإسلام وألف بين قلوب العرب ووجهوا جميع قواتهم إلى البلاد الأجنبية، وهم الذين ورثوا الشجاعة أباً عن جد، صرعوا الأغارقة والفرس بفضل يقينهم، وصار الناس يدخلون في الإسلام، وينتحلون لغة العرب أفواجاً.