للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

-على ما يحتمل- دون حضارة الآشوريين وحضارة البابليين اللتين ظهر شأنهما حديثاً بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين.

ولم ينشأ وهمُ الناس في همجية العرب قبل ظهور محمد عن سكوت التاريخ فقط، بل نشأ، أيضاً، عن عدم التفريق بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب.

والأعراب، قبل محمدٍ وبعده، أجلافٌ كأجلاف الأمم الأخرى الذين لم يكن لهم تاريخ ولا حضارة.

وليس الأعراب غير فرع من فرعي الأرومة العربية، فيوجد بجانبهم العرب المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نثبت وجود حضارةٍ عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب وإن كنا لا نعرف تفاصيلها.

ولم يكن التاريخ صامتاً إزاء ثقافة العرب القديمة صمته إزاء الحضارات الأخرى التي رفع العلم الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتاً إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور محمد بزمن طويل، ويكفي لتمثلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل ظهور محمد آدابٌ ناضجةٌ ولغةٌ راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجاريةٍ بأرقي أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقل من مائة سنة أن يقيموا حضارةً من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ.

والحق أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفواً، وهي تتخذ دليلاً على ماضٍ طويل، وينشأ عن اتصال أمةٍ بأرقى الأمم اقتباسها لما عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلاً لذلك.

وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب، الذين استطاعوا في أقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافةٍ سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأستراليين، أنشأ خلفاء محمد تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مراكز للعلوم والآداب والفنون في آسية وأوربة.

أجل، استطاعت أممٌ كثيرة غير العرب أن تهدم دولاً عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلهم أن تبدع حضارة؛ لما لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة، الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهودٍ عظيمة دامت

<<  <   >  >>