قال الحافظ في " الفتح " (٢/ ٧٣٦): هذا فيه ردٌ على من زعم أنَّ عثمان إنما أتَمَّ لكونه تأهَّل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين وكل موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجد له أرضاً بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة، لأنَّ جميع ذلك منتف في حق عائشة , وأكثره لا دليل عليه , بل هي ظنون ممَن قالها. ويردُّ الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر بزوجاته وقصر. والثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك. والثالث: أنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي في البخاري. والرابع والخامس: لَم ينقلا. فلا يكفي التخرص في ذلك. والأول: وإن كان نقل. وأخرجه أحمد والبيهقي من حديث عثمان , وأنه لَمَّا صلَّى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه , فقال: إني تأهَّلت بمكة لَمَّا قدمت , وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهَّل ببلدة فإنه يُصلِّي صلاة مقيم ". فهذا الحديث لا يصح , لأنه منقطع. وفي رواته من لا يحتج به. ويرده قول عروة: إن عائشة تأوَّلت ما تأوَّل عثمان، ولا جائز أن تتأهَّل عائشة أصلاً. فدلَّ على وَهْن ذلك الخبر. ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله " كما تأوَّل عثمان " التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقوّيه أنَّ الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة. والمنقول: أنَّ سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم. والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لَمَّا قدم علينا معاوية حاجاً صلَّى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان , فقالا: لقد عبت أمرَ ابنِ عمك , لأنه كان قد أتم الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتمَّ الصلاة إذا قدم مكة صلَّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة. وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك , أنَّ عثمان وعائشة كانا يريان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصر , لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة. انتهى. وهذا رجَّحه جماعةٌ من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب. وأما ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , أنَّ عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج. فهو مرسل، وفيه نظرٌ , لأنَّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما في حديث العلاء بن الحضرمي. وصحَّ عن عثمان , أنه كان لا يودِّع النساء إلاَّ على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته. وثبت عن عثمان , أنه قال لَمَّا حاصروه , وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة , قال: لن أفارق دار هجرتي. ومع هذا النظر في رواية معمر عن الزهري , فقد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري قال: إنما صلَّى عثمان بمنى أربعاً , لأنَّ الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام. فأحبَّ أن يعلّمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان , أنه أتم بمنى ثم خطب , فقال: إنَّ القصر سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ولكنه حدث طَغَام - يعني بفتح الطاء والمعجمة - فخفت أن يستنّوا. وعن ابن جريج , أنَّ أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث إن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلَقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان. وأما عائشة. فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه , أنها كانت تصلِّي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي. إسناده صحيح. وهو دالٌّ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. ويدل على اختيار الجمهور. ما رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة , أنه سافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فكلُّهم كان يُصلِّي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير وفي المقام بمكة.