عز من قائل: «وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك. بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب» «١» .
وقال أهل المعرفة والعلم: العقل جوهر مضيء خلقه الله عز وجل في الدماغ، وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.
واعلم أن العقل ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما. فأما الأول فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء. وأما الثاني فهو العقل التجريبي وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة يقال أن الشيخ أكمل عقلا وأتم دراية، وإن صاحب التجارب أكثر فهما وأرجح معرفة، ولهذا قيل: من بيّضت الحوادث سواد لمته «٢» ، وأخلقت التجارب لباس جدته، وأراه الله تعالى لكثرة ممارسته، تصاريف أقداره وأقضيته كان جديرا برزانة العقل ورجاحة الدراية. وقد يخص الله تعالى بألطافه الخفية من يشاء من عباده، فيفيض عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل وزيادة معرفة تخرجه عن حد الاكتساب ويصير بها راجحا على ذوي التجارب والآداب، ويدل على ذلك قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام فيما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز حيث يقول: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
«٣» . فمن سبقت له سابقة من الله تعالى في قسم السعادة، وأدركته عناية أزلية، أشرقت على باطنه أنوار ملكوتية وهداية ربانية، فاتصف بالذكاء والفطنة قلبه، وأسفر عن وجه الإصابة ظنه، وإن كان حديث السن قليل التجربة، كما نقل في قصة سليمان بن داود عليهما السلام وهو صبي حيث رد حكم أبيه داود عليه السلام في أمر الغنم والحرث.
وشرح ذلك فيما نقله المفسرون أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب حرث «٤» . فقال أحدهما: إن هذا دخلت غنمه بالليل إلى حرثي فأهلكته وأكلته ولم تبق لي فيه شيئا، فقال داود عليه السلام: الغنم لصاحب الحرث عوضا عن حرثه، فلما خرجا من عنده مرا على سليمان عليه السلام، وكان عمره إذ ذاك على ما نقله أئمة التفسير إحدى عشرة سنة، فقال لهما: ما حكم بينكما الملك؟ فذكرا له ذلك. فقال: غير هذا أرفق بالفريقين. فعادا إلى داود عليه السلام وقالا له ما قاله ولده سليمان عليه السلام فدعاه داود عليه السلام وقال له: ما هو الأرفق بالفريقين؟ فقال سليمان: تسلم الغنم إلى صاحب الحرث.- وكان الحرث كرما قد تدلت عناقيده في قول أكثر المفسرين- فيأخذ صاحب الكرم الأغنام يأكل لبنها وينتفع بدرها ونسلها، ويسلم الكرم إلى صاحب الأغنام ليقوم به، فإذا عاد الكرم إلى هيئته وصورته التي كان عليها ليلة دخلت الغنم إليه سلّم صاحب الكرم الغنم إلى صاحبها وتسلم كرمه كما كان بعناقيده وصورته، فقال له داود: القضاء كما قلت. وحكم به كما قال سليمان عليه السلام.
وفي هذه القصة نزل قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً
«٥» . فهذه المعرفة والدراية لم تحصل لسليمان بكثرة التجربة وطول المدة، بل حصلت بعناية ربانية وألطاف إلهية، وإذا قذف الله تعالى شيئا من أنوار مواهبه في قلب من يشاء من خلقه اهتدى إلى مواقع الصواب، ورجح على ذوي التجارب والاكتساب في كثير من الأسباب، ويستدل على حصول كمال العقل في الرجل بما يوجد منه وما يصد عنه، فإن العقل معنى لا يمكن مشاهدته، فإن المشاهدة من خصائص الأجسام.
فأقول: يستدل على عقل الرجل بأمور متعددة منها:
ميله إلى محاسن الأخلاق وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف وتجنبه ما يكسبه عارا ويورثه سوء السمعة.
وقد قيل لبعض الحكماء: بم يعرف عقل الرجل؟
فقال: بقلة سقطه في الكلام، وكثرة إصابته فيه. فقيل له:
فإن كان غائبا، فقال؛ بإحدى ثلاث إما برسوله وإما بكتابه وإما بهديته، فإن رسوله قائم مقام نفسه، وكتابه يصف نطق لسانه، وهديته عنوان همّته، فبقدر ما يكون فيها من نقص يحكم به على صاحبها.
وقيل: من أكبر الأشياء شهادة على عقل الرجل حسن