للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال هشام: صدقت. وذكر عنده سليمان أخوه، فقال:

والله لأشكونه يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك، ولما ولي الخلافة قال: الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام. قال النابغة: أي الرجال المهذب «١» ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[الباب العاشر في التوكل على الله تعالى والرضا بما قسم والقناعة وذم الحرص والطمع وما أشبه ذلك]

وفيه فصول

[الفصل الأول في التوكل على الله تعالى]

قال الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ

«٢» .

وقال تعالى: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

«٣» . وقال تعالى:

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ

«٤» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» . رواه مسلم قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رقيقة.

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتعود بطانا» «٥» .

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود من دعاني أجبته، ومن استغاثني أغثته، ومن استنصرني نصرته، ومن توكل عليّ كفيته، فأنا كافي المتوكلين وناصر المستنصرين، وغياث المستغيثين، ومجيب الداعين.

وحكي أنه كان في زمن هارون الرشيد قد حصل للناس غلاء سعر، وضيق حال حتى اشتد الكرب على الناس اشتدادا عظيما، فأمر الخليفة هارون الرشيد الناس بكثرة الدعاء والبكاء، وأمر بكسر آلات الطرب، ففي بعض الأيام رؤي عبد يصفق ويرقص ويغني، فحمل إلى الخليفة هارون الرشيد، فسأله عن فعله ذلك من دون الناس، فقال: إن سيدي عنده خزانة بر، وأنا متوكل عليه أن يطعمني منها، فلهذا أنا إذا لا أبالي فأنا أرقص وأفرح، فعند ذلك قال الخليفة: إذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله، فالتوكل على الله أولى، فسلّم للناس أحوالهم، وأمرهم بالتوكل على الله تعالى.

وحكي أن حاتما الأصم كان رجلا كثير العيال، وكان له أولاد ذكور وإناث، ولم يكن يملك حبة واحدة، وكان قدمه التوكل فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم، فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجا، ويدعو لكم ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئا ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة؟

وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناول للرزق، وليس برزاق، فذكّرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة، يا أبانا انطلق حيث أحببت، فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج، وخرج مسافرا، وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسف على فراقه أصحابه وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة ويقولون: لو سكتّ ما تكلمنا، فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم، فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدا، فانقطع عن عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز بيت الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم، فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعا، واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزا جديدا وملأته ماء، وقالت للمتناول منها:

اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم.

فقال الأمير: لقد سمعت به.

<<  <   >  >>