الخشب، فغرس الساج «١» عشرين سنة. وكفّ عن دعائهم وكفّوا عن ضربه، إلا أنهم كانوا يستهزئون به، فلما أدرك الشجر، أمره ربه، فقطعها وجففها، وقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاث صور، وبعث الله له جبريل فعلمه، وأوحى الله تعالى إليه أن عجّل بعمل السفينة، فقد اشتد غضبي على من عصاني، فلما فرغت السفينة جاء أمر الله سبحانه وتعالى بانتصار نوح ونجاته، وإهلاك قومه، وعذابهم إلا من آمن معه. وفار التنور وظهر الماء على وجه الأرض، وقذفت السماء بأمطار كأفواه القرب، حتى عظم الماء وصارت أمواجه كالجبال، وعلا فوق أعلى جبل في الأرض أربعين ذراعا، وانتقم الله سبحانه وتعالى من الكافرين ونصر نبيه نوحا عليه الصلاة والسلام. وفي تمام قصته وحديث السفينة كلام مبسوط لأهل التفسير ليس هذا موضع شرحه وبسطه، فهذا زبدة صبر نوح عليه الصلاة والسلام وانتصاره على قومه.
[وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام:]
فإنه لما كسر أصنام قومه التي كانوا يعبدونها، لم يروا في قتله ونصرة آلهتهم أبلغ من إحراقه، فأخذوه وحبسوه ببيت ثم بنوا حائزا كالحوش طول جداره ستون ذراعا في سفح جبل عال ونادى منادي ملكهم أن احتطبوا لإحراق إبراهيم ومن تخلف عن الاحتطاب أحرقه، فلم يتخلف منهم أحد، وفعلوا ذلك أربعين يوما ليلا ونهارا حتى كاد الحطب يساوي رؤوس الجبال، وسدوا أبواب ذلك الحائز، وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبها حتى كان الطائر يمر بها فيحترق من شدة لهبها، ثم بنوا بنيانا شامخا، وبنوا فوقه منجنيقا، ثم رفعوا إبراهيم على رأس البنيان، فرفع إبراهيم عليه الصلاة والسلام طرفه إلى السماء ودعا الله تعالى وقال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
«٢» . وقيل:
كان عمره يومئذ ستة وعشرين سنة، فنزل إليه جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال يا إبراهيم: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل: سل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فقال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ
«٣» . فلما قذفوه فيها نزل معه جبريل عليه الصلاة والسلام، فجلس به على الأرض وأخرج الله له ماء عذبا. قال كعب: ما أحرقت النار غير أكتافه «٤» ، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقيل: أكثر من ذلك، ونجاه الله تعالى، ثم أهلك نمرود وقومه بأخس الأشياء وانتقم منهم وظفر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهم، فهذه ثمرة صبره على مثل هذه الحالة العظمى، ولم يجزع منها وصبر وفوّض أمره إلى الله تعالى في ذلك، وتوكل عليه ووثق به. ثم جاءته قصة ذبح ولده، وأمره الله تعالى بذلك فقابل أمره بالتسليم والامتثال، وسارع إلى ذبحه من غير إهمال ولا إمهال، وقصته مشهورة، وتفاصيل القصة في كتب التفسير مسطورة، فلما ظهر صدقه ورضاه ومبادرته إلى طاعة مولاه وصبره على ما قدره وقضاه عوّضه الله تعالى عن ذبح ولده أن فداه، واتخذه خليلا من بين خلقه واجتباه، وأما الذبيح صلوات الله وسلامه عليه، فإنه صبر على بلية الذبح.
وتلخيصها أن الله تعالى لما ابتلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده قال: إني أريد أن أقرب قربانا، فأخذ ولده والسكين والحبل، وانطلق، فلما دخل بين الجبال قال ابنه: أين قربانك يا أبت؟ قال: إنّ الله تعالى قد أمرني بذبحك، فانظر ماذا ترى. قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
«٥» ، يا أبت أشدد وثاقي كي لا أضطرب واجمع ثيابك حتى لا يصل إليها رشاش الدم فتراه أمي فيشتد حزنها، وأسرع إمرار السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ وإذا لقيت أمي، فأقرأ السلام عليها، فأقبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى ولده يقبله ويبكي ويقول: نعم العون أنت يا بني على ما أمر الله تعالى، قال مجاهد: لما أمرّ السكين على حلقه انقلبت السكين، فقال يا أبت: اطعن بها طعنا. وقال السدي: جعل الله حلقه كصحيفة من نحاس لا تعمل فيها السكين شيئا، فلما ظهر فيهما صدق التسليم نودي أن يا إبراهيم هذا فداء ابنك، فأتاه جبريل عليه السلام بكبش أملح، فأخذه وأطلق ولده وذبح الكبش، فلا جرم أن جعل الذبيح نبيا بصبره وامتثاله لأمره.
[وأما يعقوب عليه الصلاة والسلام:]
فإنه لما ابتلي بفراق ولده وذهاب بصره واشتداد حزنه قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ