ورأى الإسكندر سميّا له لا يزال ينهزم، فقال له يا رجل: إما أن تغير فعلك، وإما أن تغير إسمك.
ووقع في بعض العساكر ضجة، فوثب خراساني إلى دابته ليلجمها، فصيّر اللجام في الذنب من الدهش، وقال يخاطب الفرس: هب جبهتك عرضت، فناصيتك كيف طالت.
وخرج أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين لمحاربة أبي بلال مرداس، وكان مرداس في أربعين، فانهزم أسلم منه، فلاموه على ذلك، وذمه ابن أبي زياد، فقال: لأن يذمني ابن أبي زياد حيا أحب إليّ من أن يمدحني ميتا. وكان أسلم بعد ذلك إذا خرج إلى السوق ومر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك، فكبر ذلك عليه، فشكاهم إلى ابن أبي زياد، فأمر صاحب الشرطة أن يكفهم عنه. وفي ذلك يقول بعضهم شعرا:
يقول جبان القوم في حال سكره ... وقد شرب الصهباء هل من مبارز
وأين الخيول الأعوجيات في الوغى ... أنازل منهم كلّ ليث مناهز «١»
ففي السكر قيس وابن معدي وعامر ... وفي الصحو تلقاه كبعض العجائز
هذا ما انتهى إلينا من هذا الباب، والحمد لله الكريم الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
[الباب الثاني والأربعون في المدح والثناء وشكر النعمة والمكافأة]
وفيه فصول
[الفصل الأول في المدح والثناء]
المدح وصف الممدوح بأخلاق يمدح عليها صاحبها، يكون نعتا حميدا، وهذا يصح من المولى في حق عبده، فقد قال الله تعالى في حق نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
«٢» . وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤
«٣» وقال تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ٢
«٤» .
إلى آخر الآية، فعلى هذا يجوز مدح الإنسان بما فيه من الأخلاق الحميدة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب» «٥» ! فقد قال العتبي: هو المدح الباطل والكذب، وأما مدح الرجل بما فيه فلا بأس به.
وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا، وقد مدح هو صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار رضي الله عنه.
وفي حثو التراب معنيان: أحدهما التغليظ في الرد عليه، والثاني كأنه يقال له: بكفّيك التراب. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون، واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.
ومدح سارية الديلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سارية الذي أمره عمر رضي الله عنه على السرية، وناداه في خطبته بقوله: يا سارية الجبل، فمن مدحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وهو أصدق بيت قالته العرب.
ومن أحسن ما مدحه به حسان رضي الله عنه قوله:
وأحسن منك لم تر قطّ عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرّأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
ومن أحسن ما مدحه به عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه قوله:
لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر