فأوصيكما يا ابني سدوس كلاكما ... بتقوى الذي أعطاكما وبراكما
بشكر إذا ما أحدث الله نعمة ... وصبر لأمر الله فيما ابتلاكما
وقال:
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب الع ... لا وترقى إلى العلياء غير مزاحم
عليك بحسن الصبر في كلّ حالة ... فما صابر فيما يروم بنادم
وقال آخر:
هو الدهر قد جرّبته وبلوته ... فصبرا على مكروهه وتجلدا
وحدث الزبير قال: قامت عائشة بعدما دفن أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر الأحداث بعده، فإن كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة، وأنا تابعة له في الصبر، فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك، فسلام الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا رازئة على القضاء فيك.
ولما مات ذر الهمداني جاء أبوه، فوجده ميتا وكان موته فجأة، وعياله يبكون عليه فقال: ما لكم، والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق ولا أصابنا فيه، ما أخطأ من كان قبلنا في مثله، ولما وضعه في حفرته قال: رحمك الله يا بني وجعل أجري فيك لك، والله ما بكيت عليك وإنما بكيت لك، فو الله لقد كنت بي بارا ولي نافعا وكنت لك محبا وما بي إليك من وحشة وما بي إلى أحد غير الله من فاقة، وما ذهبت لنا بعزة وما أبقيت لنا من ذل، ولقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك وعدت الصابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك، اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من الأجر إلى ذر صلة مني فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحا وتجاوز عنه، فإنك رحيم بي وبه، اللهم قد وهبت لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم. اللهم إنك قد جعلت لك عليه حقا وجعلت لي عليه حقا قرنته بحقك، فقلت: اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
«١» . اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من حقي، فاغفر له ما قصر فيه من حقك، فإنك أولى بالجود والكرم. فلما أراد الإنصراف قال: يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك.
وفي الحديث: إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة: ماذا قال عبدي عند قبض روح ولده وثمرة فؤاده؟ فيقولون: إلهنا حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: أشهدكم يا ملائكتي أني بنيت له بيتا في الجنة وسميته بيت الحمد. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دفن ابنا له وضحك عند قبره، فقيل له:
أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أن أرغم أنف الشيطان، فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه، فإذا أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها، حتى يود لو أن أولاده وأهله وأقاربه ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة. وقد وعد الله تعالى في المصيبة ثوابا عظيما إذا صبر صاحبها، واحتسب وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
«٢» . وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥
«٣» الآية. اللهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك واغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين يا رب العالمين.
[الفصل الثاني من هذا الباب في التعازي والتأسي]
روى الترمذي في كتاب السنن للبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» . وروينا في كتاب الترمذي أيضا بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى ثكلى كسي برداء في الجنة» . وروينا في سنن ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن، عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» .
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي