للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا ما طواك الدّهر يا أمّ مالك ... فشأن المنايا القاضيات وشانيا

قال: فطرب الرشيد طربا شديدا واستعاده منه مرات، ثم قال له: تمنّ عليّ. قال: أتمنى الهنيء والمريء. وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة، فأمر له بهما، فقيل له يا أمير المؤمنين: إن هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما، فقال الرشيد:

لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت، ولكن احتالوا في شرائهما منه، فساوموه فيهما حتى وقفوا معه على مائة ألف دينار، فرضي بذلك، فقال الرشيد: إدفعوها له، فقالوا:

يا أمير المؤمنين في إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن، ولكن نقطعها له، فكان يوصل بخمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها.

ومن ذلك ما حكى إسحاق الموصلي قال: كان الواثق بن المعتصم أعلم الناس بالغناء، وكان يضع الألحان العجيبة ويغني بها شعره، وشعر غيره، فقال له يوما: يا أبا محمد لقد فقت أهل العصر في كل شيء، فغنني شعرا أرتاح إليه، وأطرب عليه يومي هذا.

قال إسحاق: فغنيته هذه الأبيات:

ما كنت أعلم ما في البين من حرق ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن

قالت تودّعني والدمع يغلبها ... فهمهمت بعض ما قالت ولم تبن «١»

مالت إليّ وضمتّني لترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن

وأعرضت ثم قالت وهي باكية ... يا ليت معرفتّي إيّاك لم تكن

قال: فخلع عليّ خلعة كانت عليه وأمر لي بمائة ألف درهم.

وقال وغنيته يوما:

قفي ودّعينا يا سعاد بنظرة ... فقد حان منا يا سعاد رحيل

فيا جنّة الدنيا ويا غاية المنى ... ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل

وكنت إذا ما جئت جئت لعلّة ... فأفنيت علّاتي فكيف أقول «٢»

فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك وصول

فقال: والله لا سمعت يومي غيره وألقى عليّ خلعة من ثيابه، وأمر لي بصلة ما أمر لي قبلها بمثلها.

[ومن حكايات الخلفاء ومكارم أخلاقهم:]

ما حكي عن إبراهيم بن المهدي قال: قال جعفر بن يحيى يوما لبعض ندمائه: إني قد استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غدا. فهل من مساعدة؟ فقلت: جعلت فداءك أنا أسعد بمساعدتك وأسر بمشاهدتك. فقال: بكر بكور الغراب.

قال: فأتيته عند الفجر، فوجدت الشموع قد أوقدت بين يديه وهو ينتظرني في الميعاد، فلما زلنا في أطيب عيش إلى وقت الضحى، فقدمت إلينا موائد الأطعمة عليها من أفخر الطعام وأطيبه، فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم خلعت علينا ثياب المنادمة، وضمخنا بالخلوق وانتقلنا إلى مجلس الطرب ومدت الستائر وغنت القينات فظللنا بأنعم يوم ثم إنه داخله الطرب. فدعا بالحاجب وقال له: إذا أتى أحد يطلبنا فأذن له ولو كان عبد الملك بن صالح بنفسه، فاتفق بالأمر المقدر أن عم الرشيد عبد الملك بن صالح قدم علينا في ذلك الوقت وكان صاحب جلالة وهيبة ورفعة، وعنده من الورع والزهد والعبادة ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد إذا جلس مجلس لهو لا يطلعه على ذلك لشدة ورعه، فلما قدم دخل به الحاجب علينا فلما رأيناه رمينا ما في أيدينا وقمنا إجلالا له نقبل يده وقد ارتعنا لذلك وخجلنا وزاد بنا الحياء، فقال لا بأس عليكم كونوا على ما أنتم عليه، ثم صاح بغلام، فدفع له ثيابه، ثم أقبل علينا وقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم قال: فما كان بأسرع من أن طرحت عليه ثياب خز معلم وقدمت إليه موائد الطعام والشراب، فطعم وشرب الشراب لساعته، ثم قال: خففوا عني فإنه شيء ما فعلته والله قط. قال: فتهلل وجه جعفر ثم التفت إلى عبد الملك، فقال له: جعلت فداءك قد علوت علينا وتفضلت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فاقضيها لك مكافأة لك على ما صنعت؟

قال: بلى إن في قلب أمير المؤمنين بعض تغير عليّ، فتسأله الرضا عني، فقال جعفر: قد رضي عنك أمير المؤمنين قال: وعليّ عشرة آلاف دينار، فقال جعفر: هي حاضرة لك من مالي ولك من مال أمير المؤمنين مثلها.

قال: أريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة من أمير المؤمنين قال: قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال:

<<  <   >  >>