إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوما فهو كاذبه
ثم سكت، وابتدأ المشدود يقول:
يا دير حنّة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإنّي لست بالصاحي
ثم سكت وغنى دبيس:
دع البساتين من آس وتفّاح ... واعدل هديت إلى شيخ الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلّا نضو أشباح
ثم أقبل أبو عيسى على المشدود وقال له غنّ لي شعري فغنّاه:
يا لجّة الدمع هل للغمض مرجوع ... أم للكرى من جفون العين ممنوع
ما حيلتي وفؤادي قائم دنف ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من فرق الأحزان مصدوع «١»
ما أرّق العين إلّا حبّ مبتدع ... ثوب الجمال على خدّيه مخلوع
قال أبو عكرمة: فو الله لقد حضرت من المجالس ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فما حضرت مثل ذلك المجلس ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
وحكي عن الرشيد أنه قال يوما للفضل بن الربيع: من بالباب من الندماء؟ قال: جماعة فيهم هاشم بن سليمان مولى بني أمية، وأمير المؤمنين يشتهي سماعه. قال: فأذن له وحده، فدخل، فقال: هات يا هاشم، فغناه من شعر جميل حيث يقول:
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح عقلي ما أصبت به أهلي
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
قال: فطرب الرشيد طربا شديدا، وقال: أحسنت لله أبوك، قلّده عقدا نفسيا. فما رآه هاشم ترقرقت عيناه بالدموع، فقال له الرشيد: ما يبكيك يا هاشم؟ فقال:
يا أمير المؤمنين إن لهذا العقد حديثا عجيبا إن أذن لي أمير المؤمنين حدثته به، فقال: قد أذنت لك. قال يا أمير المؤمنين: قدمت يوما على الوليد وهو على بحيرة طبربة، ومعه قينتان «٢» لم ير مثلهما جمالا وحسنا، فلما وقعت عينه عليّ قال: هذا إعرابي قد ظهر من البوادي أدعو به لنسخر به، فدعاني، فسرت إليه. ولم يعرفني، فغنت إحدى الجاريتين بصوت هو لي، فأخطأته الجارية، فقلت لها: أخطأت يا جارية، فضحكت، ثم قالت: يا أمير المؤمنين ألم تسمع ما يقول هذا الأعرابي يعيب علينا غناءنا؟ فنظر إليّ كالمنكر، فقلت يا أمير المؤمنين: أنا أبين لك الخطأ، فلتصلح، وتر كذا، ووتر كذا، ففعلت وغنت شيئا ما سمع منها إلا في هذا اليوم، فقامت الجارية مكبة عليّ وقالت: أستاذي هاشم وربّ الكعبة، فقال الوليد: أهاشم بن سليمان أنت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وكشفت عن وجهي، وأقمت معه بقية يومنا، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فقالت الجارية يا أمير المؤمنين أتأذن لي في بر أستاذي؟ فقال الوليد: ذلك إليك، فحلت يا أمير المؤمنين هذا العقد من عنقها ووضعته في عنقي، وقالت: هو لك، ثم قربوا إليه السفينة ليرجع إلى موضعه، فركب في السفينة، وطلعت معه إحدى الجاريتين، وتبعتها صاحبتي، فأرادت أن ترفع رجلها، وتطلع السفينة فسقطت في الماء، فغرقت لوقتها، وطلبت، فلم يقدر عليها، فاشتد جزع الوليد عليها، وبكى بكاء شديدا، وبكيت أنا عليها أيضا بكاء شديدا، فقال لي يا هاشم: ما نرجع عليك مما وهبناه لك، ولكن نحب أن يكون هذا العقد عندنا نذكرها به، فبعني إياه، فعوضني عنه ثلاثين ألف درهم، فلما وهبتني العقد يا أمير المؤمنين تذكرت قضيته، وهذا سبب بكائي، فقال الرشيد:
لا تعجب، فإن الله كما ورثنا مكانهم ورثنا أموالهم.
وقال علي بن سليمان النوفلي: غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوما فأنشده:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا «٣» ... كفى لمطايانا «٤» برؤياك هاديا «٥»