لا يعدلون برفدهم عن سائل ... عدل الزمان عليهم أو جارا
وإذا الصريخ دعاهم لملمّة ... بذلوا النفوس وفارقوا الأعمارا «١»
[ذكر الجبن والجبناء وأخبارهم وما جاء عنهم]
قد استعاذ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجبن، فقال:
«اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» . نعوذ بالله مما استعاذ منه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفيك أن يقال في وصف الجبان، إن أحس بعصفور طار فؤاده، وإن طنت بعوضة طال سهاده، يفزع من صرير الباب، ويفلق من طنين الذباب، إن نظر إليه شزرا أغمي عليه شهرا يحسب خفوق الرياح قعقعة الرماح، قال الشاعر:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد «٢»
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه من الجبناء، روي عن ابن الزبير أنه قال: كان حسان في قاع أطم «٣» مع النساء يوم الخندق، فأتاهم في ذلك اليوم يهودي يطوف بالحصن، فقالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطوف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءه من اليهود، فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قال:
فاعتجرت صفية «٤» ، ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن، فضربته بالعمود حتى قتلته، ورجعت إلى الحصن، فقالت: يا حسان قم إليه فاسلبه، فإنه ما منعني من سلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسلبه من حاجة.
وقيل: كان لفتى من قريش جارية مليحة الوجه حسنة الأدب، وكان يحبها حبا شديدا، فأصابته إضاقة وفاقة، فاحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق، وكان ذلك في زمن الحجاج بن يوسف، فابتاعها منه الحجاج فوقعت منه بمنزلة، فقدم عليه فتى من ثقيف من أقاربه، فأنزله قريبا منه، وأحسن إليه، فدخل على الحجاج، والجارية تكبسه «٥» ، وكان الفتى جميلا، فجعلت الجارية تسارقه النظر، ففطن الحجاج بها، فوهبها له، فأخذها وانصرف، فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح لا يدري أين هي، وبلغ الحجاج ذلك، فأمر مناديا أن ينادي برئت الذمة ممن رأى وصيفة من صفتها كذا وكذا، أو لم يحضرها، فلم يلبث أن أتي له بها، فقال لها الحجاج: يا عدوة الله كنت عندي من أحب الناس إليّ، فاخترت ابن عمي شابا حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فعلمت أنك شغفت به، فوهبتك له، فهربت من ليلتك.
فقالت: يا سيدي، اسمع قصتي، ثم اصنع بي ما شئت. قال: هاتي ولا تخفي شيئا. قالت: كنت للفتى القرشي، فاحتاج إلى ثمني، فحملني إلى الكوفة، فلما قربنا منها دنا مني فوقع عليّ، فسمع زئير الأسد، فوثب واخترط سيفه وحمل عليه، وضربه، فقتله، وأتى برأسه، ثم أقبل عليّ وما برد ما عنده، ثم قضى حاجته، وإن ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إليّ، فلما علا بطني وقعت فأرة من السقف، فضرط، ثم غشي عليه، فمكث زمانا طويلا وأنا أرش عليه الماء، وهو لا يفيق، فخفت أن يموت، فتتهمني به، فهربت فزعا منك. فما ملك الحجاج نفسه من شدة الضحك، وقال:
ويحك اكتمي هذا ولا تعلمي به أحدا. قالت: على أن لا تردني إليه. قال: لك ذلك.
وحدّث جار لأبي حنيفة النميري قال: كان لأبي حنيفة سيف ليس بينه وبين العصا فرق، وكان يسميه لعاب المنية فأشرفت عليه ذات ليلة وقد انتضاه، وهو واقف على باب بيته، وقد سمع حسا في داره، وهو يقول: أيها المغتر بنا المجترىء علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل، وسيف صقيل، وهو لعاب المنية الذي سمعت به. أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، ثم فتح الباب على وجل، فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا.
وخرج المعتصم يوما إلى بعض متصيداته، فظهر له أسد، فقال لرجل من أصحابه أعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه. أفيك خير يا رجل؟ قال: لا، فضحك المعتصم، وقال: قبّح الله الجبان.