سنين أسلمته إلى المؤدب، فحفّظه القرآن، فتلاه، وعلّمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخر قومه وآبائه وأجداده، فلما أن بلغ الحلم واشتد عظمه وكمل خلقه حملته على عتاق الخيل فتفرّس «١» وتمرّس «٢» ولبس السلاح ومشى بين بويتات الحي الخيلاء، فأخذ في قرى الضيف وإطعام الطعام، وأنا عليه وجلة أشفق عليه من العيون أن تصيبه، فاتفق أن نزلنا بمنهل «٣» من المناهل بين أحياء العرب، فخرج فتيان الحي في طلب ثأر لهم، وشاء الله تعالى أن أصابته وعكة شغلته عن الخروج، حتى إذا أمعن القوم، ولم يبق في الحي غيره، ونحن آمنون وادعون، ما هو إلا أن أدبر الليل وأسفر الصباح حتى طلعت علينا غرر الجياد وطلائع العدو، فما هو إلا هنيهة حتى أحرزوا الأموال دون أهلها، وهو يسألني عن الصوت، وأنا أستر عنه الخبر إشفاقا عليه وضنّا به، حتى إذا علت الأصوات وبرزت المخدرات «٤» رمى دثاره «٥» وثار كما يثور الأسد، وأمر بإسراج فرسه، ولبس لأمة حربه، وأخذ رمحه بيده ولحق حماة القوم، فطعن أدناهم منه فرمى به، ولحق أبعدهم منه فقتله، فانصرفت وجوه الفرسان، فرأوه صبيا صغيرا لا مدد وراءه فحملوا عليه، فأقبل يؤم البيوت. ونحن ندعو الله عز وجل له بالسلامة، حتى إذا مدّهم وراءه وامتدوا في أثره عطف عليهم، ففرق شملهم وشتت جمعهم، وقلل كثرتهم ومزقهم كل ممزق، ومرق كما يمرق السهم، وناداهم: خلوا عن المال، فو الله لا رجعت إلا به، أو لأهلكن دونه، فانصرفت إليه الأقران، وتمايلت نحوه الفرسان، وتميزت له الفتيان، وحملوا عليه وقد رفعوا إليه الأسنّة، وعطفوا عليه بالأعنّة، فوثب عليهم وهو يهدر كما يهدر الفحل من وراء الإبل، وجعل لا يحمل على ناحية إلا حطمها، ولا كتيبة إلا مزقها حتى لم يبق من القوم إلا من نجا به فرسه، ثم ساق المال، وأقبل به، فكبّر القوم عند رؤيته، وفرح الناس بسلامته، فو الله ما رأينا قط يوما كان أسمح صباحا وأحسن رواحا من ذلك اليوم، ولقد سمعته يقول في وجوه فتيان الحي هذه الأبيات:
تأمّلن فعلي هل رأيتنّ مثله ... إذا حشرجت نفس الجبان من الكرب «٦»
وضاقت عليه الأرض حتى كأنّه ... من الخوف مسلوب العزيمة والقلب
ألم أعط كلا حقّه ونصيبه ... من السمهري اللدن والمرهف العضب «٧»
أنا ابن أبي هند بن قيس بن مالك ... سليل المعالي والمكارم والسّيب «٨»
أبى لي أن أعطي الظلامة مرهف ... وطرف قويّ الظهر والجوف والجنب
وعزم صحيح لو ضربت بحدّه ال ... جبال الرواسي لانحططن إلى الترب
وعرض نقي أتّقي أن أعيبه ... وبيت شريف في ذرى ثعلب الغلب
فإن لم أقاتل دونكنّ وأحتمي ... لكن وأحميكنّ بالطعن والضرب
فلا صدّق اللاتي مشين إلى أبي ... يهنّينه بالفارس البطل الندب «٩»
وقال الشاعر:
آراؤهم ووجوههم وسيوفهم ... في الحادثات إذا دجون نجوم «١٠»
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم «١١»
وقال آخر:
فوارس قوّالون للخيل أقدمي ... وليس على غير الرؤوس مجال
بأيديهم سمر العوالي كأنّما ... تشيب على أطرافهن ذبال
وقال آخر:
قوم إذا اقتحموا العجاج رأيتهم ... شمسا وخلت وجوههم أقمارا