وسلامه عليهم أجمعين لما ابتلاه الله تعالى بالقائه في ظلمة الجب وبيعه كما تباع العبيد، وفراقه لأبيه، وإدخاله السجن، وحبسه فيه بضع سنين، وأنه تلقى ذلك كله بصبره وقبوله، فلا جرم أورثهما صبرهما جمع شملهما واتساع القدرة بالملك في الدنيا مع ملك النبوة في الآخرة.
[وأما أيوب عليه الصلاة والسلام:]
فإنه ابتلاه الله تعالى بهلاك أهله وماله، وتتابع المرض المزمن والسقم المهلك حتى أفضى أمره إلى ما تضعف القوى البشرية من حمله. ولنذكر شيئا مختصرا من ذلك وهو أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان يظلم الناس، فنهاه جماعة من الأنبياء عن الظلم وسكت عنه أيوب عليه الصلاة والسلام، فلم يكلمه ولم ينهه لأجل خيل كانت له في مملكته، فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام تركت نهيه عن الظلم لأجل خيلك، لأطيلن بلاءك، فقال إبليس لعنه الله: يا رب سلطني على أولاده وماله، فسلطه، فبث إبليس مردته من الشياطين، فبعث بعضهم إلى دوابه، ورعاتها، فاحتملوها جميعا وقذفوها في البحر، وبعث بعضهم إلى زرعه وجنّاته فأحرقوها، وبعث بعضهم إلى منازله وفيها أولاده وكانوا ثلاثة عشر ولدا وخدمه وأهله، فزلزلوها فهلكوا، ثم جاء إبليس إلى أيوب عليه الصلاة والسلام، وهو يصلي، فتمثل له في صورة رجل من غلمانه فقال: يا أيوب أنت تصلي ودوابك ورعاتك قد هبت عليها ريح عظيمة، وقذفت الجميع في البحر، وأحرقت زرعك وهدمت منازلك على أولادك وأهلك، فهلك الجميع، ما هذه الصلاة؟ فالتفت إليه وقال: الحمد لله الذي أعطاني ذلك كله، ثم قبله مني. ثم قام إلى صلاته، فرجع إبليس ثانيا، فقال: يا رب سلطني على جسده، فسلطه، فنفخ في إبهام رجله فانتفخ ولا زال يسقط لحمه من شدة البلاء إلى أن بقي أمعاؤه تبين وهو مع ذلك كله صابر محتسب مفوض أمره إلى الله تعالى، وكان الناس قد هجروه واستقذروه وألقوه خارجا عن البيوت من نتن ريحه، وكان زوجته رحمة بنت يوسف الصديق قد سلمت فترددت إليه متفقدة، فجاءها إبليس يوما في صورة شيخ ومعه سخلة «١» وقال لها: ليذبح أيوب هذه السخلة على اسمي فيبرأ، فجاءته، فأخبرته، فقال لها: إن شفاني الله تعالى لأجلدنك مائة جلدة. تأمريني أن أذبح لغير الله تعالى، فطردها عنه، فذهبت وبقي. ليس له من يقوم به، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا أحد من الناس يتفقده خر ساجدا لله تعالى وقال: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣
«٢» ، فلما علم الله تعالى منه ثباته على هذه البلوى طوّل هذه المدة وهي على ما قيل ثمان عشرة سنة، وقيل غير ذلك، وإنه تلقى جميع ذلك بالقبول وما شكا إلى مخلوق ما نزل به.
عاد الله تعالى بألطافه عليه، فقال تعالى: فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا
«٣» . وأفاض عليه من نعمه، ما أنساه بلوى نقمه، ومنحه من أقسام كرمه أن أفتاه في يمينه تحلة قسمه، ومدحه في نص الكتاب، فقال تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤
«٤» . فلو لم يكن الصبر من أعلى المراتب وأسنى المواهب لما أمر الله تعالى به رسله ذوي الحزم وسمّاهم بسبب صبرهم أولي العزم، وفتح لهم بصبرهم أبواب مرادهم وسؤالهم ومنحهم من لدنه غاية أمرهم ومأمولهم ومرامهم، فما أسعد من اهتدى بهداهم واقتدى بهم، وإن قصر عن مداهم. وقيل: العسر يعقبه اليسر، والشدة يعقبها الرخاء، والتعب يعقبه الراحة، والضيق يعقبه السعة، والصبر يعقبه الفرج، وعند تناهي الشدة تنزل الرحمة، والموفق من رزقه صبرا وأجرا، والشقي من ساق القدر إليه جزعا ووزرا.
ومما شنف السمع من نجح هذه الإشارة، وأتحف النفع في نهج هذه العبارة، ما روي عن الحسن البصري رضي الله تعالى عنه قال: كنت بواسط، فرأيت رجلا كأنه قد نبش من قبر، فقلت: ما دهاك يا هذا؟ فقال: أكتم علي أمري، حبسني الحجاج منذ ثلاث سنين، فكنت في أضيق حال، وأسوأ عيش، وأقبح مكان، وأنا مع ذلك كله صابر لا أتكلم، فلما كان بالأمس أخرجت جماعة كانوا معي، فضربت رقابهم، وتحدث بعض أعوان السجن أن غدا تضرب عنقي، فأخذني حزن شديد وبكاء مفرط، وأجرى الله تعالى على لساني فقلت: إلهي اشتد الضر وفقد الصبر وأنت المستعان، ثم ذهب من الليل أكثره، فأخذتني غشية، وأنا بين اليقظان والنائم إذ آتاني آت فقال لي: قم فصل ركعتين وقل: يا من لا يشغله شيء عن شيء، يا من