للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال، فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال: أما ولي السلطان، فلا، وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها، فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق]

حدّث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال:

حدثني أبي قال: كان بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا؟ قالت:

يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه.

فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها، وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال:

يا أمير المؤمنين ما لي حاجة، قال: ويحك أو لست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال: ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها، قال: بلى، فلي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال: فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت: وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك فقال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:

لا أستطيع سلوّا عن مودتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا «١»

فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال:

مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:

تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلّغه هندا

ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا

فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى سل حاجتك؟ قال:

تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:

منيّ الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدّهر

والله لا أسلوكمو أبدا ... ما لاح بدر أو بدا فجر

فأمرها فغنت قال: فلم تتم الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي، فقال لها:

ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين وأمر بالفتى فجهز ودفن، وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت.

وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره فتذاكرا الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله: حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه: والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا، فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا، فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيّمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها، فلما جاءت بها قبضت على

<<  <   >  >>