يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت: لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك، فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت: قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره. قال عبد الملك: لقد حدثتني بعجب فما صنعت الجارية؟ قلت: ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام.
وقيل أن عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات.
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد ... إذا ورد عليك كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المتنهى في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال: وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل:
وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذاها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل:
بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج ... كأنها فضّة قد شابها ذهب
وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم، وأما الثانية فأنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم، وأما الثالثة، فإنها جارية فاترة الطرف لطيفة الكف عميمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل بديعة الجمال كأنها خشف الغزال وثمنها يا أمير المؤمنين ثمانون ألف درهم ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا النخاسين فقال لهم: تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري إلى أمير المؤمنين. فقال أحد النخاسين:
أيد الله الأمير إني رجل كبير ضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني أفتأذن لي في ذلك؟ قال: نعم، فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا يوما ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت الريح فانكشف بطن إحداهن وهي الكوفية فبان نور ساطع وكان اسمها مكتوم فنظر إليها ابن النخاس وكان شابا جميلا ففتن بها لساعته فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول:
أمكتوم عيني لا تملّ من البكا ... وقلبي بأسهام الأسى يترشّق
أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى ... وقلبي رهين كيف لا أتعشّق
فأجابته تقول:
لو كان حقا ما تقول لزرتنا ... ليلا إذا هجعت عيون الحسّد
قال: فلما جن الليل انتضى الفتى ابن النخاس سيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه فأخذها وأراد أن يهرب ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسورا معهم إلى أن قدموا على عبد الملك بن مروان فلما مثلوا بالجواري بين يديه أخذ الكتاب ففتحه وقرأه فوجد الصفة وافقت اثنتين من الجواري ولم توافق الثالثة ورأى في وجهها صفرة وهي الجارية الكوفية فقال للنخاسين: ما بال هذه الجارية لم توافق حليتها التي ذكرها الحجاج في كتابه وما هذا الاصفرار الذي بها والانتحال فقالوا يا أمير المؤمنين نقول ولنا الأمان، قال: وإن كذبتم هلكتم. فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى وهو مصفّد بالحديد فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين بكى بكاء شديدا وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول:
أمير المؤمنين أتيت رغما ... وقد شدّت إلى عنقي يديّا
مقرّا بالقبيح وسوء فعلي ... ولست بما رميت به بريّا
فإن تقتل ففوق القتل ذنبي ... وأن تعفو فمن جود عليّا
فقال عبد الملك: يا فتى ما حملك على ما صنعت