أحسنت الأيام مطالبتي لأحسنت مطالبتك ولأنت على ما لم تفعل أقدر مني على رد ما قد فعلت. قال: فبكى المأمون وقال: بالله أعد عليّ ما قلت، فأعاده، فالتفت المأمون إلى يحيى بن أكثم وقال: أما تنظر إلى مخاطبة هذا الرجل بأصغريه «١» ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء بأصغريه قلبه ولسانه» . والله لا وقفت لك إلا وأنا قائم على قدمي، فوقف وأمر له بصلة جزيلة واعتذر إليه، فلما همّ المأمون بالانصراف قال الرجل يا أمير المؤمنين: بيتان قد حضراني، ثم أنشد يقول:
ما جاد بالوفر إلّا وهو معتذر ... ولا عفا قطّ إلّا وهو مقتدر
وكلّما قصدوه زاد نائله ... كالنار يؤخذ منها وهي تستعر
وقيل: إن بعض الحكماء لزم باب كسرى في حاجة دهرا، فلم يوصل إليه، فكتب أربعة أسطر في ورقة ودفعها للحاجب، فكان في السطر الأول: العديم لا يكون معه صبر على المطالبة، وفي السطر الثاني: الضرورة والأمل أقدماني عليك، وفي السطر الثالث: الانصراف من غير فائدة شماتة الأعداء، وفي السطر الرابع: أما نعم فمثمرة، وأما لا فمريحة. فلما قرأها كسرى دفع له في كل سطر ألف دينار.
وحكي أن رجلا كان جارا لابن عبيد الله، فأصاب الناس قحط بالعراق حتى رحل أكثر الناس عنه، فعزم جار ابن عبيد الله على الخروج من البلاد في طلب المعيشة، وكانت له زوجة لا تقدر على السفر، فلما رأت زوجها تهيأ للسفر قالت له: إذا سافرت من الذي ينفق علينا؟
قال: إن لي على ابن عبيد الله دينار ومعي به أشهاد عليه شرعي، فخذي الأشهاد وقدميه إليه، فإذا قرأه أنفق عليك مما عنده حتى أحضر، ثم ناولها رقعة كتب فيها هذه الأبيات يقول:
قالت وقد رأت الأحمال محدجة ... والبين قد جمّع المشكوّ والشاكي
من لي إذا غبت في ذا المحل «٢» قلت لها ... الله وابن عبيد الله مولاك
فمضت إليه المرأة وحكت له ما قال زوجها، وأخبرته بسفره، وناولته الرقعة، فقرأها، وقال: صدق زوجك، وما زال ينفق عليها ويواصلها بالبر والإحسان إلى أن قدم زوجها فشكره على فضله وإحسانه.
وحكي أن مطيع بن أياس مدح معن بن زائدة بقصيدة حسنة، ثم أنشدها بين يديه، فلما فرغ من إنشاده أراد معن أن يباسطه، فقال يا مطيع: إن شئت أعطيناك وإن شئت مدحناك كما مدحتنا، فاستحيا مطيع من اختيار الثواب وكره اختيار المدح وهو محتاج، فلما خرج من عند معن أرسل إليه بهذين البيتين:
ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب نعمة وأخي ثراء
ولكنّ الزمان برى عظامي ... ومالي كالدراهم من دواء
فلما قرأها معن ضحك وقال: ما مثل الدراهم من دواء.
وأمر له بصلة جزيلة ومال كثير.
قال الشاعر:
هززتك لا إنّي جعلتك ناسيا ... لأمري ولا إنّي أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سلّه ... إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا «٣»
وقال آخر:
ماذا أقول إذا رجعت وقيل لي ... ماذا لقيت من الجواد الأفضل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... بخل الجواد بماله لم يجمل «٤»
فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بدّ أخبرهم وإن لم أسأل
وقال آخر:
لنوائب الدنيا خبأتك فانتبه ... يا نائما من جملة النوّام
أعلى الصراط تزيل لوعة كربتي ... أم في المعاد تجود بالإنعام
ومما يستحسن إلحاقه بهذا الباب:
[ذكر شيء مما جاء في ذم السؤال والنهي عنه:]
روي عن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي