للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أطلق فديتك بالنجاح عقالها ... حتى تثور بنا بغير عقال

وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فو الذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا، فإذا نابته نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل. وقال لجابر بن عبد الله: يا جابر من كثرت نعم الله تعالى عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإذا قام بما يجب لله فيها فقد عرضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم بما يجب لله فيها عرض نعمه لزوالها.

وكان لبيد رحمه الله تعالى آلى على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر ويطعم، وربما ذبح العتاق «١» إذا ضاق الخناق، فخطب الوليد بن عتبة يوما فقال: قد علمت ما جعل أبو عقيل على نفسه فأعينوه على مروءته، ثم بعث إليه بخمس من الإبل وبهذه الأبيات:

أرى الجزار يشحذ مديتيه ... إذا هبّت رياح بني عقيل

طويل الباع أبلج جعبريّ «٢» ... كريم الجدّ كالسّيف الصقيل

وفى ابن الجعبري بما نواه ... على العلات بالمال القليل

فدعا لبيد بنتا له خماسية وقال: يا بنية إني تركت الشعر، فأجيبي الأمير عني فقالت:

إذا هبّت رياح بني عقيل ... تداعينا لهبّتها الوليدا

طويل الباع أبلج عبشمي «٣» ... أعان على مروءته لبيدا

بأمثال الهضاب كأنّ رعيا ... عليها من بني حام قعودا

أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا

فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنّي في ابن عتبة أن يعودا

فقال: لقد أحسنت والله يا بنية لولا أنك سألت وقلت عد، فقالت: يا أبت إن الملوك لا يستحيا منهم في المسألة، فقال: والله لأنت في هذا أشعر مني. ووفد رجل من بني ضبة على عبد الملك، فأنشده:

والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلّب

ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب

فاصبر لعادتك التي عوّدتنا ... أولا فأرشدنا إلى من نذهب

فأمر له بألف دينار، فعاد إليه من قابل، وقال يا أمير المؤمنين: إن الروي لينازعني وإن الحياء يمنعني، فأمر له بألف دينار وقال: والله لو قلت حتى تنفد بيوت الأموال لأعطيتك.

وقيل: إن رجلا عرض للمنصور، فسأله حاجة فلم يقضها، فعرض له بعد ذلك، فقال له المنصور: أليس قد كلمتني مرة قبل هذه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن بعض الأوقات أسعد من بعض وبعض البقاع أعز من بعض، فقال: صدقت، وقضى حاجته وأحسن إليه.

وروي أن أبا دلامة الشاعر كان واقفا بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له: سلني حاجتك. فقال: كلب صيد، فقال: أعطوه إياه، فقال: ودابة أصيد عليها، فقال: أعطوه دابة، فقال: وغلاما يقود الكلب ويصيد به. قال: أعطوه غلاما، قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال:

أعطوه جارية، فقال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه دارا تجمعهم، قال:

فإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعته عشر ضياع عامرة وعشرة ضياع غامرة، فقال: ما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لا نبات فيها. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: إجعلوها كلها عامرة. فانظر إلى حذقه بالمسألة، ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فسهّل القضية، وجعل يأتي بمسألة بعد مسألة على ترتيب وفكاهة حتى سأل ما سأله، ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليه.

وحكي عن المأمون أنه قال ليحيى بن أكثم يوما: سر بنا نتفرج، فسارا، فبينما هما في الطريق وإذا بمقصبة خرج منها رجل بقصبة للمأمون يتظلم له، فنفرت دابته، فألقته على الأرض صريعا، فأمر بضرب عنق ذلك الرجل، فقال يا أمير المؤمنين: إن المضطر يرتكب الصعب من الأمور وهو عالم به، ويتجاوز حد الأدب وهو كاره لتجاوزه، ولو

<<  <   >  >>