وما مسّني عسر ففوّضت أمره ... إلى الملك الجبّار إلّا تيسّرا
وما أحسن ما قيل:
الدهر لا يبقى على حالة ... لا بدّ أن يقبل أو يدبر
فإن تلقّاك بمكروهة ... فاصبر فانّ الدهر لا يصبر
ونقل عن محمد بن الحسن رحمه الله قال: كنت معتقلا بالكوفة، فخرجت يوما من السجن مع بعض الرجال وقد زاد همي وكادت نفسي أن تزهق وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وإذا برجل عليه آثار العبادة قد أقبل عليّ ورأى ما أنا فيه من الكآبة فقال: ما حالك؟ فأخبرته القصة، فقال:
الصبر الصبر، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصبر ستر الكروب وعون على الخطوب» . وروي عن ابن عمه علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الصبر مطية لا تدبر وسيف لا يكل، وأنا أقول:
ما أحسن الصبر في الدنيا وأجمله ... عند الإله وأنجاه من الجزع
من شدّ بالصبر كفّا عند مؤلمه ... ألوت يداه بحبل غير منقطع
فقلت: بالله عليك زدني، فقد وجدت بك راحة.
فقال: ما يحضرني شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولكني أقول:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ومن ليس في كلّ الأمور له كفو
لئن كان بدء الصبر مرّا مذاقه ... لقد يجتنى من بعده الثمر الحلو
ثم ذهب، فسألت عنه، فما وجدت أحدا يعرفه ولا رآه أحد قبل ذلك في الكوفة، ثم أخرجت في ذلك اليوم من السجن، وقد حصل لي سرور عظيم بما سمعت منه وانتفعت به، ووقع في نفسي أنه من الأبدال الصالحين قيضه الله تعالى لي يوقظني ويؤدبني ويسليني.
وقيل: إن رجلا كان يضرب بالسياط ويجلد جلدا بليغا، ولم يتكلم ويصبر ولم يتأوه، فوقف عليه بعض مشايخ الطريقة فقال له: أما يؤلمك هذا الضرب الشديد؟
فقال: بلى، قال: لم لا تصيح؟ فقال: إن في هؤلاء القوم الذين وقفوا عليّ صديقا لي يعتقد في الشجاعة والجلادة وهو يرقبني بعينه، فأخشى إن ضجيت يذهب ماء وجهي عنده ويسوء ظنه بي، فأنا أصبر على شدة الضرب وأحتمله لأجل ذلك. قال الشاعر:
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ... ويحمد منه الصّبر مما يصيبه
فمن قلّ فيما يلتقيه اصطباره ... لقد قلّ فيما يرتجيه نصيبه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها:
يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر ولم يكلفني إلا ما كلفوا به، فقال عز وجل:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
«١» . وإني والله لأصبرن كما صبروا. فطن النبي صلى الله عليه وسلم لما صبر كما أمر أسفر وجه صبره عن ظفره ونصره، وكذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الذين هم أولو العزم لما صبروا ظفروا وانتصروا، وقد اختلف أهل العلم فيهم على أقوال كثيرة، فقال مقاتل رضي الله تعالى عنه: هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويونس وأيوب صلوات الله عليهم، وقال قتادة: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ويقال: ما الذي صبروا عليه حتى سماهم الله تعالى أولي العزم؟ فأقول: ذكر ما صبروا عليه.
[أما نوح عليه الصلاة والسلام:]
فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان نوح عليه الصلاة والسلام يضرب ثم يلف في لبد ويلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يعود ويخرج إلى قومه ويدعوهم إلى الله تعالى، ولما أيس منهم ومن إيمانهم جاءه رجل كبير يتوكأ على عصاه ومعه ابنه، فقال لابنه: يا بني انظر إلى هذا الشيخ واعرفه ولا يغرك، فقال له ابنه: يا أبت مكّني من العصا، فأخذها من أبيه وضرب بها نوحا عليه الصلاة والسلام ضربة شج بها رأسه، وسال الدم على وجهه، فقال: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن يكن لك فيهم حاجة فاهدهم، وإلا فصبرني إلى أن تحكم، فأوحى الله تعالى إليه: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
«٢» . قال: يا رب، وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء أنجي فيه أهل طاعتي وأغرق أهل معصيتي، قال: يا رب، وأين الماء؟ قال: أنا على كل شيء قدير، قال: يا رب، وأين الخشب؟ قال: اغرس