الطريق سائرون استقبلهم ركب، فتقدم منهم شاب، فنادى، هل فيكم فلان ابن فلان؟ فقال صاحب البعير:
نعم ها أنا فلان ابن فلان فقال: هل بعت من فلان الميت شيئا؟ قال: نعم. بعته بعيري بنجيبه في النوم، فقال: هذا نجيبه، فخذه، وأنا ولده، وقد رأيته في النوم، وهو يقول: إن كنت ولدي، فادفع نجيبي إلى فلان. فانظر إلى هذا الرجل الكريم كيف أكرم أضيافه بعد موته «١» .
وروي عن الهيثم بن عدي أنه قال: تمارى ثلاثة نفر في الأجواد، فقال رجل: أسخى الناس في عصرنا هذا عبد الله بن جعفر، فقال الآخر: أسخى الناس: قيس بن سعيد بن عبادة، فقال الآخر: بل أسخى الناس اليوم عرابة الأوسي، فتنازعوا بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: لقد أفرطتم في الكلام، فليمض كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ننظر بما يعود، فنحكم على العيان. فقام صاحب ابن جعفر فوافاه، وقد وضع رجله في ركاب راحلته يريد ضيعة له، فقال الرجل: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله، وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، وكان فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار.
ومضى صاحب قيس، فوجده نائما فقالت له جارية لقيس:
ما حاجتك؟ فقال: ابن سبيل ومنقطع به، فقالت له الجارية: حاجتك أهون من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس اليوم غيرها، وامض إلى معاطن الإبل «٢» ، فخذ راحلة من رواحله، وما يصلحها، وعبدا، وامض لشأنك، قيل: إن قيسا لما انتبه أخبرته الجارية بما صنعت، فأعتقها، ولو لم تعلم أن ذلك يرضيه ما جسرت أن تفعله، فخلق خدم الرجل مقتبس من خلقه. قال بعض الشعراء:
وإذا ما اختبرت ودّ صديق ... فاختبر ودّه من الغلمان
ومضى صاحب عرابة، فوجده قد خرج من منزله يريد الصلاة، فقال: يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به. وكان معه عبدان، فصفق بيده اليمنى على اليسرى، وقال: أواه أواه، والله ما أصبح ولا أمسى الليلة عند عرابة شيء، ولا تركت له الحقوق مالا، ولكن خذ هذين العبدين، فقال الرجل:
والله ما كنت بالذي يسلبك عبديك، فقال: إن أخذتهما، وإلا فهما حران لوجه الله تعالى، فإن شئت، فأعتق، فأخذ الرجل العبدين ومضى. ثم اجتمعوا وذكروا قصة كل واحد، فحكموا لعرابة لأنه أعطى على جهد.
قيل: إن شاعرا قصد خالد بن يزيد، فأنشده شعرا يقول فيه:
سألت الندى والجود حرّان أنتما ... فقالا يقينا إنّنا لعبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا ... إليّ وقالا خالد ويزيد
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم، وقل له: إن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
كريم كريم الأمهات مهذّب ... تدفّق يمناه الندى وشمائله
هو البحر من أي الجهات أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
جواد بسيط الكف حتى لو انه ... دعاها لقبض لم تجبه أنامله
فقال يا غلام: أعطه مائة ألف درهم، وقل له إن زدتنا زدناك، فأنشد يقول:
تبرّعت لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
وأنبتّ ريشا في الجناحين بعدما ... تساقط مني الريش أو كاد يذهب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فقال يا غلام: اعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فقال: حسب الأمير ما سمع، وحسبي ما أخذت وانصرف.
[وأما الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية]
فهو حاتم بن عبد الله الطائي، وهرم ابن سنان، وخالد بن عبيد الله وكعب بن أمامة الأيادي. وضرب المثل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما، فأما كعب، فجاد بنفسه، وآثر رفيقيه بالماء في المفازة، ومات عطشا، وليس له خبر مشهور. وأما خالد بن عبيد الله، فإنه جاء إليه بعض الشعراء ورجله في الركاب يريد الغزو، فقال له:
إني قلت فيك بيتين من الشعر، فقال: في مثل هذا الحال؟
قال: نعم، فقال: هاتهما، فأنشده يقول: