يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير
فقال يا غلام: أعطه عشرين ألف دينار، فأخذها وانصرف. وأما حاتم، فأخباره كثيرة، وآثاره في الجود شهيرة، ويكنى أبا سفانة وأبا عبدي، وكان يسير في قومه بالمرباع والمرباع ربع الغنيمة، وكان ولده عدي يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى طي، فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام، وخلف أخته سفانة، فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
يا محمد هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا، أنا بنت حاتم الطائي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفات المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وقال فيها: ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر، وعالما ضاع بين جهال. فأطلقها ومنّ عليها، فاستأذنته في الدعاء له، فأذن له، وقال لأصحابه اسمعوا وعوا، فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه. فلما أطلقها صلى الله عليه وسلم رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عديا وهو بدومة الجندل، فقالت له يا أخي: ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فاني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة رأيت خصالا تعجبني. رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه صلى الله عليه وسلم. وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبيا فللسابق فضله، وإن يك ملكا فلن يذل في عز اليمن.
فقدم عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له وسادة محشوة ليفا، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، فأسلم عدي بن حاتم، وأسلمت أخته سفانة بنت حاتم المتقدم ذكرها، وكانت من أجود نساء العرب، وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله فتهبها وتعطيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الكريمين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فأما أن أعطي وتمسكي، وأما أن أمسك وتعطي، فإنه لا يبقى على هذا شيء، فقالت له: منك تعلمت مكارم الأخلاق. قال ابن الأعرابي: كان حاتم الطائي من شعراء الجاهلية، وكان جوادا يشبه جوده شعره ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفرا إذا قاتل غلب، وإذا سئل وهب، وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق، وكان إذا أهلّ رجب الذي كانت تعظمه مضر في الجاهلية نحر كل يوم عشرا من الإبل وأطعم الناس، واجتمعوا إليه.
وكان قد تزوج ماوية بنت عفير، وكانت تلومه على إتلاف المال، فلا يلتفت لقولها. وكان لها ابن عم يقال له مالك، فقال لها يوما: ما تصنعين بحاتم، فو الله لئن وجد مالا ليتلفنّه، وإن لم يجد ليتكلّفن ولئن مات ليتركنّ أولادا عالة على قومك. فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك.
وكانت النساء يطلّقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أن يكن في بيوت من شعر، فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب، وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام، وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم إنها طلقته، فلم يأتها، ثم قال لها ابن عمها: طلقي حاتما وأنا أتزوجك، وأنا خير لك منه، وأكثر مالا، وأنا أمسك عليك، وعلى ولدك. فلم يزل بها حتى طلّقته، فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده: يا عدي ما ترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك. قال: فأخذ ابنه وهبط بطن واد، فنزل فيه، فجاءه قوم، فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، وكان عدتهم خمسين فارسا، فضاقت بهم ماوية ذرعا وقالت لجاريتها: اذهبي إلى ابن عمي مالك، وقولي له:
إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا، فأرسل إلينا بشيء نقريهم ولبن نسقيهم، وقالت لها: انظري إلى جبينه وفمه، فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بلحيته على زوره «١» ، ولطم رأسه، فأقبلي ودعيه.
فلما أتته وجدته متوسدا وطبا من لبن «٢» فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم، فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته، وقال: اقرئيها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما لأجله، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم.
فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وبما قال لها،