فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم.
فأتت الجارية حاتما، فصاحت به، فقالت: لبيك قريبا دعوت، فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها: حبا وكرامة، ثم قام إلى الإبل، فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء، ثم ضرب عراقيبهما «١» ، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك بسببه. نترك أولادنا وليس لهم شيء. فقال لها: ويحك يا ماوية الذي خلقهم وخلق الخلق متكفل بأرزاقهم.
وكان إذا اشتد البرد وغلب الشتاء أمر غلمانه بنار فيوقدونها في بقاع الأرض لينظر إليها من ضل عن الطريق ليلا، فيقصدها، ولم يكن حاتم يمسك شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجوز بهما، ثم جاد بفرسه في سنة مجدبة.
حكي أن ملكان ابن أخي ماوية قال: قلت لها يوما: يا عمة حدثيني ببعض عجائب حاتم وبعض مكارم أخلاقه، فقالت: يا ابن أخي أعجب ما رأيت منه أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف «٢» ، وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذت سفانة، وأخذ عديا، وجعلنا نعللهما حتى ناما، فأقبل عليّ يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنمت؟ فلم أجبه.
فسكت ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه، فإذا امرأة فقال: ما هذا؟ فقالت: يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب أو كالذئاب جوعا، فقال لها: أحضري صبيانك، فوالله لأشبعنهم، فقامت سريعة لأولادها، فرفعت رأسي وقلت له يا حاتم: بماذا تشبع أطفالها، فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال: والله لأشبعنك وأشبعن صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائما، وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه، فذبحه، ثم أجج نارا ودفع إليها شفرة، وقال:
قطعي واشوي وكلي واطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال: والله إن هذا لهو اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم، ثم أتى الحي بيتا بيتا يقول لهم انهضوا بالنار، فاجتمعوا حول الفرس، وتقنّع حاتم بكسائه وجلس ناحية، فو الله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا والله ما ذاقها حاتم، وإنه لأشدهم جوعا.
وأخباره كثيرة مشهورة ومن شعره:
أماويّ إنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أنّ حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر «٣»
وأغار قوم على طيء، فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم، فهزمهم وتبعهم، فقال له كبيرهم: يا حاتم هب لي رمحك، فرمى به إليه، فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك، ولو عطف عليك لقتلك. فقال: قد علمت ذلك، ولكن ما جواب من يقول هب لي؟
ولما مات عظم على طيء موته، فادعى أخوه أنه يخلفه، فقالت له أمه: هيهات شتان والله ما بين خلقتيكما، وضعته، فبقي والله سبعة أيام لا يرضع حتى ألقمت إحدى ثديي طفلا من الجيران، وكنت أنت ترضع ثديا ويدك على الآخر، فأنّى لك ذلك. قال الشاعر:
يعيش الندى ما عاش حاتم طيّء ... وإن مات قامت للسخاء مآتم
وكانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، ومتمم النعم، ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه.
والضمير: الغريب، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح، ولم تشبّ النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح، فتهتدي الضلّال وتأتي الأضياف على نباحها.
والحكايات في ذكر الأجواد والكرماء والأسخياء وأهل المعروف وما كانوا عليه من السخاء والكرم أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. ففي مثل هذه المناقب فليتنافس المتنافسون ولمثلها فليعمل العاملون، فإن فيها عز الدنيا وشرف الآخرة، وحسن الصيت وخلود جميل الذكر، فإنا لم نجد شيئا يبقى على ممر الدهر إلا الذكر حسنا كان أو قبيحا.