وقد قال الشاعر:
ولا شيء يدوم فكن حديثا ... جميل الذكر فالدنيا حديث
فانتهز فرصة العمر ومساعدة الدنيا ونفوذ الأمر وقدم لنفسك كما قدموا، تذكر بالصالحات كما ذكروا، وادّخر نفسك في القيامة كما ادّخروا، واعلم أن المأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو، فاختر أي الثلاث شئت.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والثلاثون في البخل والشح وذكر البخلاء وأخبارهم وما جاء عنهم
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«١» الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والشّحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البخل جامع لمساوىء القلوب وهو زمام يقاد به إلى كل سوء» . وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهما: إن البخل لو كان قميصا ما لبسته أو كان طريقا ما سلكته.
وقيل: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان. فأما الحطيئة فمرّ به إنسان وهو على باب داره وبيده عصا، فقال: أنا ضيف فأشار إلى العصا وقال: لكعاب الضيفان أعددتها. وأما حميد الأرقط، فكان هجاء للضيفان فحّاشا عليهم، نزل به مرة أضياف، فأطعمهم تمرا، وهجاهم وذكر أنهم أكلوه بنواه. وأما أبو الأسود، فتصدّق على سائل بتمرة، فقال له: جعل الله نصيبك من الجنة مثلها. وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالا منهم. وأما خالد بن صفوان، فكان يقول للدرهم إذا دخل عليه:
يا عيّار كم تعير وكم تطرف وتطير، لأطيلن حبسك. ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه. وقيل له: لم لا تنفق، ومالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه.
وأنشد بعضهم:
وهبني جمعت المال ثم خزنته ... وحانت وفاتي هل أزاد به عمرا
إذا خزّن المال البخيل فإنّه ... سيورثه غمّا ويعقبه وزرا «٢»
واستأذن حنظلة على صديق له بخيل، فقيل: هو محموم، فقال: كلوا بين يديه حتى يعرق. وكتب سهل بن هارون كتابا في مدح البخل وأهداه إلى الحسن بن سهل فوقع على ظهره، «قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه» «٣» .
وقال ابن أبي فنن:
ذريني وإتلافي لمالي فإنّني ... أحبّ من الأخلاق ما هو أجمل
وإنّ أحقّ الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وكان عمر بن يزيد الأسدي بخيلا جدا، أصابه القولنج «٤» في بطنه فحقنه الطبيب بدهن كثير فانحل ما في بطنه في الطست، فقال لغلامه: اجمع الدهن الذي نزل من الحقنة وأسرج به. وكان المنصور شديد البخل جدا، مر به مسلم الحادي في طريقه إلى الحج، فحدا له يوما بقول الشاعر:
أغرّ بين الحاجبين نوره ... يزينه حياؤه وخيره «٥»
ومسكه يشوبه كافوره ... إذا تغذّى رفعت ستوره «٦»
فطرب حتى ضرب برجله المحمل ثم قال: يا ربيع أعطه نصف درهم، فقال مسلم: نصف درهم! يا أمير المؤمنين، والله لقد حدوت لهشام، فأمر لي بثلاثين ألف درهم. فقال: تأخذ من بيت مال المسلمين ثلاثين ألف درهم، يا ربيع: وكّل به من يستخلص منه هذا المال. قال