الربيع: فما زلت أمشي بينهما وأروضه حتى شرط مسلم على نفسه أن يحدو له في ذهابه وإيابه بغير مؤنة.
وكان أبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة بخيلين يضرب ببخلهما المثل، قال مروان: ما فرحت بشيء أشد مما فرحت بمائة ألف درهم وهبها لي المهدي، فوزنتها فرجحت درهما، فاشتريت به لحما. واشترى يوما لحما بدرهم، فلما وضعه في القدر دعاه صديقه، فرد اللحم على القصاب بنقصان دانقين، فجعل القصاب ينادي على اللحم ويقول: هذا لحم مروان، واجتاز يوما بأعرابية، فأضافته، فقال: إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم وهبت لك درهما، فوهبه سبعين ألف درهم، فوهبها أربعة دوانق.
ومن الموصوفين بالبخل: أهل مرو، يقال إن عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم ويشكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر، ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه، فإذا استوى جر كل منهم خيطه وأكل لحمه وتقاسموا المرق.
وقيل لبخيل: من أشجع الناس؟ قال: من سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارته. وقيل لبعضهم: أما يكسوك محمد بن يحيى؟ فقال: والله لو كان له بيت مملوء إبرا، وجاء يعقوب ومعه الأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يستعير منه إبرة ليخيط بها قميص يوسف الذي قدّ من دبر «١» ، ما أعاره إياها، فكيف يكسوني؟ وقد نظم ذلك من قال:
لو أن دارك أنبتت لك واحتشت ... إبرا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قدّ قميصه لم تفعل
وكان المتنبي بخيلا جدا مدحه إنسان بقصيدة، فقال له:
كم أمّلت منا على مدحك؟ قال: عشرة دنانير. قال له:
والله لو ندفت قطن الأرض بقوس السماء على جباه الملائكة ما دفعت لك دانقا.
وقال دعبل: كنا عند سهل بن هارون، فلم نبرح حتى كاد يموت من الجوع، فقال: ويلك يا غلام آتنا غداءنا، فأتي بقصعة فيها ديك مطبوخ تحته ثريد قليل، فتأمل الديك فرآه بغير رأس، فقال لغلامه: وأين الرأس؟ فقال:
رميته، فقال: والله إني لأكره من يرمي برجله، فكيف برأسه؟ ويحك أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ومنه يصيح الديك ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذي يتبرك به وعينه التي يضرب بها المثل، فيقال: شراب كعين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم نر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه، وهبك ظننت أني لا آكله، أما قلت عنده من يأكله. أنظر في أي مكان رميته فأتني به.
فقال: والله لا أدري أين رميته، فقال: ولكني أنا أعرف أين رميته. رميته في بطنك، الله حسبك.
وقيل: من الناس من يبخل بالطعام ويجود بالمال وبالعكس. قال بعضهم في أبي دلف:
أبو دلف يضيّع ألف ألف ... ويضرب بالحسام على الرّغيف
أبو دلف لمطبخه قتار ... ولكن دونه سلّ السيوف «٢»
واشتكى رجل مروزي صدره من سعال، فوصفوا له سويق اللوز فاستثقل النفقة، ورأى الصبر على الوجع أخف عليه من الدواء، فبينما هو يماطل الأيام ويدافع الآلام إذ أتاه بعض أصدقائه، فوصف له ماء النّخالة، وقال: إنه يجلو الصدر، فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب من مائها، فجلا صدره ووجده يعصم «٣» ، فلما حضر غداؤه أمر به، فرفع إلى العشاء، وقال لامرأته: اطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلو الصدور. فقالت: لقد جمع الله لك بهذه النخالة بين دواء وغذاء، فالحمد لله على هذه النعمة «٤» .
وعن خاقان بن صبح قال: دخلت على رجل من أهل خراسان ليلا فأتانا بمسرجة فيها فتيلة في غاية الرقة، وقد علق فيها عودا بخيط، فقلت له: ما بال هذا العود مربوطا؟
قال: قد شرب الدهن وإذا ضاع ولم نحفظه احتجنا إلى غيره، فلا نجد إلا عودا عطشانا، ونخشى أن يشرب الدهن.
قال: فبينما أنا أتعجب وأسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو، فنظر إلى العود، فقال الرجل: يا فلان