وعاد بعضهم نحويا، فقال: ما الذي تشكوه؟ قال:
حمى جاسية نارها حامية منها الأعضاء واهية والعظام بالية، فقال له: لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية.
[الفصل الخامس في نوادر المعلمين]
قال الجاحظ: مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق، فقلت ما هذه؟ فقال: عندي صغار أو باش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة، فأضربه بالعصا القصيرة، فيتأخر، فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق فيسمع أهل الدرب ذلك، فيسارعون إلي ويخلصوني منهم.
وحكى الجاحظ أيضا قال: مررت على خربة. فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب، فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار، فقبض عليه المعلم، وجعل يلطمه ويسبه، فقلت عرفني خبره، فقال: هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج، وله كلب يلعب به، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه.
وقال الجاحظ: رأيت معلما في الكتّاب وحده فسألته، فقال: الصغار داخل الدرب يتصارعون فقلت: أحب أن أراهم. فقال: لا أشير عليك بذلك. فقلت: لا بد، قال:
فإذا جئت إلى رأس الدرب اكشف رأسك لئلا يعتقدوك المعلم فيصفعونك حتى تعمى.
وقال بعضهم: رأيت معلما وقد جاء صغيران يتماسكان فقال أحدهما: هذا عض أذني، فقال الآخر: لا والله يا سيدنا هو الذي عض أذن نفسه، فقال المعلم: يا ابن الزانية هو كان جمل يعض أذن نفسه.
وقال بعضهم: رأيت معلما وهو يصلي العصر، فلما ركع أدخل رأسه بين رجليه، ونظر إلى الصغار وهم يلعبون، وقال: يا ابن البقال قد رأيت الذي عملت وسوف أكافئك إذا فرغت من الصلاة.
وحكي عن الجاحظ أنه قال: ألفت كتابا في نوادر المعلمين، وما هم عليه من التغفل، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك، فدخلت يوما مدينة، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الآداب، فقلت هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب. قال: فكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوما لزيارته، فإذا بالكتّاب مغلق ولم أجده، فسألت عنه، فقيل: مات له عزيز، فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء، فذهبت إلى بيته وطرقت الباب، فخرجت إلي جارية، وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت، وخرجت، وقالت: باسم الله، فدخلت إليه، وإذا به جالس، فقلت: عظم الله أجرك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت، فعليك بالصبر، ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدك؟ قال لا، قلت: فوالدك، قال: لا، قلت: فأخاك؟ قال: لا، قلت:
فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي.
فقلت في نفسي: هذه أول المناحس، فقلت: سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت:
وهذه منحسة ثانية. ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟
فقال: اعلم إني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي على فؤادي مثلما كانا
لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها، ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها، فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأمّ عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب وجلست في الدار، فقلت: يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قوي عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى.
[الفصل السادس في نوادر المتنبئين]
ادعى رجل النبوة في أيام الرشيد، فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي يقال عنك؟ قال: إني نبي كريم. قال: فأي شيء يدل على صدق دعواك؟ قال: سل عما شئت. قال:
أريد أن تجعل هذه المماليك المرد القيام الساعة بلحى،