الوحيد، وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
[فصل في الصوت الحسن]
قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
«١» هو الصوت الحسن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: أتدرون متى كان الحداء؟ قالوا: لا بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله. قال: إن أباكم مضر خرج في طلب مال له، فوجد غلاما قد تفرقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، وقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع، وتجتمع عليه الخلق، فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة، وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدة فكانتا تضبطان جسده ضبطا شديدا خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب، وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته.
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: بلغنا أن الله تعالى يقيم داود عليه الصلاة والسلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم.
وقال سلام الحادي للمنصور، وكان يضرب المثل بحدائه: مر يا أمير المؤمنين بأن يظمأوا إبلا ثم يورودها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها، وتترك الشرب.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم، وتنمو له النفس ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف له الحركات، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء، حتى يرقص ويطرب، وزعمت الفلاسفة: أن النغم فصل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح. ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان، واستراحت إليها أنفسهم، وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه، ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد إلا وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح ما خلا السماع، فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح، وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويتذكر نعيم الملكوت، ويمثله في ضميره، ولأهل الرهبانية نغمات، وألحان شجية يمجدون الله تعالى بها، ويبكون على خطاياهم، ويتذكرون نعيم الآخرة.
وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد، وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر نعيم الآخرة، وقد تحن القلوب إلى حسن الصوت حتى الطير والبهائم، وكان صاحب الفلاحات يقول: إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء.
قال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصوت
وزعموا أن في البحر دواب ربما زمرت أصواتا مطربة، ولحونا مستلذة يأخذ السامعين الغشي من حلاوتها، فاعتنى بها وضعة الألحان بأن شبهوا بها أغانيهم، فلم يبلغوا، وربما يغشى على سامع الصوت الحسن للطافة وصوله إلى الدماغ وممازجته القلب. ألا ترى إلى الأم كيف تناغي ولدها، فيقبل بسمعه على مناغاتها، ويتلهى عن البكاء، والإبل يزداد نشاطها وقوتها بالحداء، فترفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة، وتتبختر في مشيتها.
وزعموا أن السماكين بنواحي العراق يبنون في جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فتجتمع السمك في الحفائر، فيصيدونه وقد نبهت على ذلك في باب ذكر البحار، وما فيها من العجائب.
والراعي إذا رفع صوته، ونفخ في يراعته تلقته الغنم بآذانها، وجدّت في رعيها، والدابة تعاف الماء، فإذا سمعت الصفير بالغت في الشرب وليس شيء مما يستلذ به أخف مؤنة من السماع.