قال أفلاطون: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلل به المريض، وتشغله عن التفكير، ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني:
وسماع مسمعة يعللنا ... حتى ننام تناوم العجم
وحكي أن البعلبكي مؤذن المنصور رجع في أذانه ليلة وجارية تصب الماء على يد المنصور، فارتعدت حتى وقع الأبريق من يدها، فقال له المنصور: خذ هذه الجارية، فهي لك ولا تعد ترجع هذا الترجيع.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة في قينة:
ألم ترها لا أبعد الله دارها ... إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع
تدير نظام القول ثم تردّه ... إلى صلصل من صوتها يترجّع
وبعد، فهل خلق الله شيئا أوقع بالقلوب، وأشد اختلاسا للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر:
ربّ سماع حسن ... سمعته من حسن
مقرّب من فرح ... مبعّد من حزن
لا فارقاني أبدا ... في صحة من بدن
وهل على الأرض من جبان مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخرّ سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا وقد شجعت نفسه، وقوي قلبه.
أم هل على الأرض من بخيل قد انقبضت أطرافه يوما يغني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه.
واختلف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، فمن حجة من أجازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «شن الغطاريف على بني عبد مناف، فو الله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام» .
واحتجوا في أباحة الغناء، واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟
قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لم نفعل. قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم القول، ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحييكم
ولولا الحبّة السمراء ... لم نحلل بواديكم
ولا بأس بالغناء إذا لم يكن فيه أمر محرم، ولا يكره السماع عند العرس والوليمة والعقيقة وغيرها، فإن فيه تحريكا لزيادة سرور مباح أو مندوب، ويدل عليه ما روي من إنشاء النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع «١»
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحرام حتى أكون أنا التي أسأمه.
ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين من حديث عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام منى يدففان ويضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.