وعن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للنابغة الجعدي:
أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك، فأسمعه كلمة، فقال له، وإنك لقائلها. قال: نعم. قال: طالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
وعن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فسمعته يغني بالركابية يقول:
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر
وكان جميل بن معمر من أخصّاء عمر قال، فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم.
قال: إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
وقد أجازوا تحسين الصوت في القراءة والأذان، فإن كانت الألحان مكروهة، فالقراءة والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن، وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور.
ومن حجة من كره الغناء أنه قال: أنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهذا باطل في أصله وتأولوا في ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً
«١» . وأخطأ من أوّل هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير، والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه، وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا.
وقال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ فقال: نعم العون على طاعة الله تعالى يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال: ليس عن هذا أسألك.
قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه ويفتح منخريه، فقال الحسن: والله يا ابن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل بنفسه هذا أبدا، فلم ينكر الحسن عليه إلا تشويه وجهه وتعويج فمه.
وسمع ابن المبارك سكران يغني هذا البيت:
أذلّني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج دواة وقرطاسا، وكتب البيت، فقيل له:
أتكتب بيت شعر سمعته من رجل سكران، فقال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان يغني على شرابه بقول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فأخذه العسس ليلة وحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له، فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟
قالوا: أخذه العسس، وهو في الحبس، فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع إذنه، وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك، فأقبل عليه عيسى بن موسى، وسأله عما جاء بسببه، فقال:
أصلح الله الأمير: إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسه، فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة، فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له، فلما رآه أبو حنيفة قال له: هل أضعناك يا فتى؟ يعرض له بشعره الذي ينشده، قال: لا والله ولكنك بررت وحفظت.
وكان عروة بن أدية ثقة في الحديث روى عنه مالك بن أنس، وكان شاعرا مجيدا لبقا غزلا، وكان يصوغ ألحان الغناء على شعره وينحلها للمغنين. قيل: إنه وقفت عليه إمرأة يوما وحوله التلاميذ، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي «٢» ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبي بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد
وكان عبد الملك الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة. قيل: إنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فأقام يسمع غناءها فرآه مولاها، فقال له: هل