ملأ الأرض والحي رجالا ونساء. قال: فما فعلت أم عمير؟ قال: صالحة أيضا. قال: فما حال الدار؟ قال:
عامرة بأهلها. قال: وكلبنا إيقاع؟ قال: قد ملأ الحي نبحا، قال: فما حال جملي زريق؟ قال: على ما يسرك.
قال: فالتفت إلى خادمه وقال: ارفع الطعام فرفعه ولم يشبع الأعرابي ثم أقبل عليه يسأله وقال: يا مبارك الناصية أعد علي ما ذكرت، قال: سل عما بدا لك، قال: فما حال كلبي إيقاع؟ قال: مات. قال: وما الذي أماته؟ قال:
اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات. قال: أو مات جملي زريق؟ قال: نعم. قال: وما الذي أماته؟ قال: كثرة نقل الماء إلى قبر أم عمير. قال: أو ماتت أم عمير؟ قال:
نعم. قال: وما الذي أماتها؟ قال: كثرة بكائها على عمير.
قال: أو مات عمير؟ قال: نعم. قال: وما الذي أماته؟
قال: سقطت عليه الدار. قال: أو سقطت الدار؟ قال:
نعم. قال: فقام له بالعصا ضاربا فولى من بين يديه هاربا.
وحكى بعضهم قال: كنت في سفر فضلك عن الطريق فرأيت بيتا في الفلاة فأتيته، فإذا به أعرابية فلما رأتني قالت: من تكون؟ قلت: ضيف. قالت: أهلا ومرحبا بالضيف، إنزل على الرحب والسعة، قال: فنزلت فقدمت لي طعاما فأكلت، وماء فشربت، فبينما أنا على ذلك إذ أقبل صاحب البيت فقال: من هذا؟ فقالت: ضيف.
فقال: لا أهلا ولا مرحبا ما لنا وللضيف، فلما سمعت كلامه ركبت من ساعتي وسرت فلما كان من الغد رأيت بيتا في الفلاة فقصدته، فإذا فيه أعرابية فلما رأتني قالت:
من تكون؟ قلت: ضيف، قالت: لا أهلا ولا مرحبا بالضيف ما لنا وللضيف؟ فبينما هي تكلمني إذ أقبل صاحب البيت فلما رآني قال: من هذا؟ قالت: ضيف.
قال: مرحبا وأهلا بالضيف. ثم أتى بطعام حسن فأكلت وماء فشربت فتذكرت ما مر بي بالأمس فتبسمت، فقال:
مم تبسمك؟ فقصصت عليه ما اتفق لي مع تلك الأعرابية وبعلها وما سمعت منه ومن زوجته، فقال: لا تعجب إن تلك الأعرابية التي رأيتها هي أختي وإن بعلها أخو امرأتي هذه، فغلب على كلّ طبع أهله.
وحكايات هؤلاء وأمثالهم كثيرة وأخبارهم ونوادرهم شهيرة، وفيما ذكرته كفاية. وأسأل الله تعالى التوفيق والهداية إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الباب الخامس والثلاثون في الطعام وآدابه والضيافة وآداب المضيف وأخبار الأكلة وما جاء عنهم وغير ذلك]
[أما إباحة الطيب من المطاعم]
فقد قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
«١» وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ
«٢» وقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
«٣» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «محرّم الحلال كمحلّل الحرام» .
وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه. وكان الحسن رضي الله تعالى عنه يقول: ليس في اتخاذ الطعام سرف.
وسئل الفضيل عمن يترك الطيبات من اللحم والخبيص «٤» للزهد، فقال: ما للزهد وأكل الخبيص؟ ليتك تأكل وتتقي الله إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام، انظر كيف برك بوالديك وصلتك للرحم وكيف عطفك على الجار وكيف رحمتك للمسلمين وكيف كظمك للغيظ وكيف عفوك عمن ظلمك وكيف إحسانك إلى من أساء إليك وكيف صبرك واحتمالك للأذى، أنت إلى إحكام هذا أحوج من ترك الخبيص.
[وأما نعوت الأطعمة وما جاء في فيها]
فقد نقل عن الرشيد أنه سأل أبا الحارث عن الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب، فقال: يا أمير المؤمنين لا أقضي على غائب. فأحضرهما إليه، فجعل يأكل من هذا لقمة ومن هذا لقمة ثم قال: يا أمير المؤمنين كلّما أردت أن أقضي لأحدهما أتى الآخر بحجته.