بكت عيني اليسرى فلما نهيتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا «١»
قال: فاستخف الرشيد الطرب، فأمر له بمائة ألف درهم.
وحدّث ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه، وكان من أضيق الناس خلقا إذا قيل له غنّ قال: لمثلي يقال غنّ، عليّ عتق رقبة إن غنيت يومي هذا، فلما كان في بعض الأيام سال وادي العقيق، فلم يبق في المدينة مخبأة ولا مخدرة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر «٢» بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وكان الحسن فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه عبدان أسودان كأنهما ساريتان يمشيان أمام دابته، فقال لهما:
أقسم بالله إن لم تفعلا ما آمركما به لأنكلن بكما، فقالا يا مولانا قل ما أمرتنا به، فلو أمرتنا أن نقتحم النار فعلنا.
قال: فاذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فأمسكاه، فإن لم يفعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق.
قال: فمضيا والحسن يقفوهما «٣» ، فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بمنكبيه، فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا ابن عائشة، فقال: لبيك وسعديك بأبي أنت وأمي قال: اسمع مني ما أقول لك، واعلم أنك مأسور في أيديهما، وقد أقسمت إن لم تغن مائة صوت ليطرحانك في العقيق. قال: فصاح ابن عائشة: ووايلاه واعظم مصيبتاه، فقال له الحسن: دعنا من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، ثم أقبل يغني، فترك الناس العقيق، وأقبلوا عليه، فلما تمت أصواته مائة كبّر الناس بلسان واحد تكبيرة ارتجت لها أقطار الأرض، وقالوا للحسن: صلى الله على جدك حيا وميتا، فما اجتمع لأحد من أهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت، فقال له الحسن: ما فعلت هذا بك يا ابن عائشة إلا لأخلاقك الشرسة، فقال ابن عائشة: والله ما مرت بي شدة أعظم من هذه لقد بلغت أطراف أعضائي، فكان ابن عائشة بعد ذلك إذا قيل له: ما أشد يوم مر عليك؟ يقول: يوم العقيق.
وحدّث أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغداد عن أبي عكرمة قال: خرجت يوما إلى المسجد الجامع، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا على بابه المشدود، وهو أحذق خلق الله تعالى بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: المسجد الجامع لعلي أستفيد حكمة أكتبها، فقال: أدخل بنا إلى أبي عيسى. قلت: أمثل أبي عيسى في قدره، وجلالته يدخل عليه بلا إذن؟ فقال للحاجب: أعلم أمير المؤمنين بمكان أبي عكرمة، فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان إليّ فحملوني حملا، فدخلت إلى دار ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أظرف منها هيئة فلما نظرت إلى أبي عيسى قال لي: ما يعيش من يحتشم اجلس، فجلست، فأتينا بطعام كثير، فلما انقضى أتينا بشراب، وقامت جارية تسقينا شرابا كالشعاع في زجاجة كأنها كوكب دري، فقلت: أصلح الله الأمير وأتم عليه نعمه ولا سلبه ما وهبه. قال: فدعا أبو عيسى بالمغنين وهم المشدود ودبيس ورقيق. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المشدود وغنى يقول:
لما استقلّ بارداف تجاذبه ... واخضرّ فوق بياض الدرّ شاربه
وأشرق الورد من نسرين وجنته ... واهتزّ أعلاه وارتجّت حقائبه «٤»
كلّمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردّه ما قال حاجبه
ثم سكت وغنّى دبيس:
الحبّ حلو أمرّته عواقبه ... وصاحب الحبّ صبّ القلب ذائبه
استودع الله من بالطرف ودّعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي ... إرفق بقلبك قد عزّت مطالبه «٥»
ثم سكت وغنّى رقيق:
بدر من الإنس حفّته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضرّ شاربه