أيضا داخلة في قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
«١» . وهي من أحسن ما يستدل به في التعزية.
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده، وتكره بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام، فلا يجدد الحزن. هكذا قال الجماهير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين، وهما إذا كان المعزّي أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة، وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت، واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وفي المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وفي الكافر بالكافر: أخلف الله عليك ولا نقص لك عددا.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعض أصحابه فسأل عنه فقالوا:
يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن بنيه، فقال: يا رسول الله هلك، فعزاه فيه ثم قال:
يا فلان أيما كان أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته وقد سبقك إليه، فيفتحه لك؟ فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقه إلى باب الجنة أحب إلي من التمتع به في دار الدنيا. قال: ذلك لك.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله:
أن الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول: يا أخي عزّ نفسك بما تعزّ به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب «٢» فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبرا، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا.
وروي عن ابن المبارك قال: مات لي ابن فمرّ بي مجوسي وقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام، فقال: اكتبوها منه. عن معاذ بن جبل أنه قال: مات لي ابن، فكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل، سلام عليكم، فإني أحمد الله الملك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر، ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنية وعواريه المستودعة، يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم، ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة. متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت، فاصبر واحتسب، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يطرد حزنا.
وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، فاذكر مصيبتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تهن عليك مصيبتك.
وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقا له فقال:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
فما المعزّى بباق ببعد ميّته ... ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
كتب بعضهم إلى أخ له يعزيه: أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت، وإن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز وجل منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وعزّى رجل بعض الخلفاء بابن له، فكتب إليه يقول:
تعزّ أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغدو الصغير ويولد
هل الابن إلا من سلالة آدم ... لكلّ على حوض المنية مورد
وكتب بعضهم إلى صديق له وقد ماتت ابنته فقال:
الموت أخفى سوأة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله سبحانه ... قد وضع النعش بجنب البنات
وكتب بعضهم إلى صديق له يعزيه بأخيه ويسليه:
ما تصنع يا أخي والقضاء نازل والموت حكم شامل، وإن لم تلذ بالصبر فقد اعترضت على مالك الأمر، وأنت تعلم