أن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر، فاجعل بين هذه اللوعة الغالبة والدمعة الساكبة حاجبا من فضلك وحاجزا من عقلك ودافعا من دينك ومانعا من يقينك، فإن المحن إذا لم تعالج بالصبر كانت كالمنح إذا لم تقابل بالشر، فصبرا صبرا، ففحول الرجال لا تستفزّها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها، فعزيز علي أن أخاطب مولاي معزّيا وأكاتب مسليا عن كبير أو صغير مما يتعلق بخدمته أو ينتهي إلى جملته، فكيف بالصنو الأكرم والذخر الأعظم والركن الأشد والسهم الأسد والشهاب الأسطع والحسام الأقطع، لكن التعزية سيرة سائرة وسنة ماضية غابرة، وقدر الله هو المقدر وأجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولولا أن الذكرى تنفع والتعزية يستوي فيها الأشرف والأوضع، لأجللت مولاي أن أفاتحه معزيا وأخاطبه مسليا، ولكن بحمد الله العالم لا يعلم والسابق لا يتقدم فبمولاي يقتدى في الصبر على النوائب وبنوره يهتدى في مشكلات المذاهب، وكل ما كان من الرزء أوجع كان الأجر عليه أوسع. جعل الله مولاي من الصابرين على المصيبة وأعظم أجره وجعل الجنة نصيبه.
وعزّى رجل فتى عن أبيه فلم يجده كما أحب فقال:
يا بني سوء الخلف أضر علينا من فقد السلف. ومات لبعض ملوك كندة ابنة فوضع بين يديه بدرة من المال وقال: من بالغ في تعزيته فهي له، فدخل عليه أعرابي وقال: عظم الله أجر الملك كفيت المؤونة وسترت العورة، ونعم الصهر القبر، فقال: قد أبلغت وأوجزت ثم دفعها له.
وعزّت أعرابية قوما فقالت: جافى الله عن ميتكم الثرى وأعانه على طول البلى وآجركم ورحمه. وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال: يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفا على نفسه، فقال:
لا تجزع، فإن من ورائه ثلاث خلال. أولهن: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمدا رسول الله، والثانية:
شفاعة جدي صلى الله عليه وسلم، والثالثة: رحمة الله التي وسعت كل شيء، فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال.
وقال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إنه في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر، فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته فقال رجاء:
أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذلك من بأس، لقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال: «إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم، قال: لولا نزفت هذه العبرة لا نصدع كبدي «١» ، ثم إنه لم يبك بعدها.
وكتب الإسكندر إلى أمه قبل وفاته بقليل: إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك وأعدى لهم طعاما ووكلي بالأبواب من يمنع من أصابته مصيبة في أم أو أب أو أخ أو أخت أو ولد، ففعلت، فلم يدخل إليها أحد، فعلمت أن الإسكندر عزّاها في نفسه.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه يعزيها فيه فقال: يا أماه لا تحزني على الفضل، فأنا خلف منه، فقالت: كيف لا أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك، فعجب المأمون من جوابها، وكان يقول:
ما سمعت قط أحسن منه ولا أجلب للقلوب. فقال لها:
عليك بالصبر، فإن فيه مزيد الأجر.
وممن جزع على ولده جعفر بن علية لما قتله الحارث قام نساء الحي يبكون عليه، وقام أبوه إلى ولد كل شاة وناقة فذبحه وألقاها بين أيديها وقال لها: ابكين معي على جعفر، فما زالت النوق ترغو والشياه تيعر والنساء يصرخن ويبكين وهو يبكي معهن، فلم ير مأتم كان أوجع منه.
وقال يحيى بن خالد: التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن، والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح.
ومما قيل في التأسي والتسلي بالخلف عن السلف:
قيل: عزى بعض الشعراء يزيد بن معاوية في والده فقال:
أصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر إلهك من بالملك حاباكا «٢»
لا رزء أصبح في الأيام نعرفه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا «٣»
وقال آخر:
لا بدّ من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
وقال آخر: