وقيل: العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق «١» .
وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة حتى تموت، ولا طعاما حتى يستمرئه، ولا يثق بخليل حتى يستقرضه «٢» .
وقيل: طول اللحية أمان من العقل. وسئل بعضهم:
أيما أحمد في الصبا الحياء أم الخوف؟ قال: الحياء لأن الحياء يدل على العقل، والخوف يدل على الخبن. وقيل:
غضب العاقل على فعله وغضب الجاهل على قوله.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عويمر ازدد عقلا تزدد من الله تعالى قربا» قلت: بأبي وأمي ومن لي بالعقل؟ قال: «اجتنب محارم الله تعالى وأدّ فرائض الله تعالى تكن عاقلا، ثم تنقل إلى صالح الأعمال تزدد في الدنيا عقلا، وتزدد من الله قربا وعزا» .
وحكى بعض أهل المعرفة قال: حياة النفس بالروح، وحياة الروح بالذكر، وحياة القلب بالعقل، وحياة العقل بالعلم. ويروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه كان ينشد هذه الأبيات ويترنم بها:
إنّ المكارم أخلاق مطهرة ... فالعقل أوّلها والدين ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والعرف ساديها «٣»
والبر سابعها والصبر ثامنها ... والشكر تاسعها واللين عاشيها «٤»
والعين تعلم من عينيّ محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلا حين أعصيها
وقال بعض الحكماء: العاقل من عقله في إرشاد، ورأيه في إمداد، فقوله سديد، وفعله حميد. والجاهل من جهله في إغراء، فقوله سقيم، وفعله ذميم. ولا يكتفي في الدلالة على عقل الرجل الاغترار بحسن ملبسه وملاحة سمته وتسريح لحيته وكثرة صلفته ونظافة بزته، إذ كم من كنيف مبيض، وجلد مفضّض. وقد قال الأصمعي: رأيت بالبصرة شيخا له منظر حسن وعليه ثياب فاخرة، وحوله حاشية وهرج، وعنده دخل وخرج، فأردت أن أختبر عقله، فسلمت عليه وقلت: ما كنية سيدنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قال الأصمعي:
فضحكت منه وعلمت قلة عقله وكثرة جهله، ولم يدفع ذلك عنه غزارة خرجه ودخله. وقد يكون الرجل موسوما بالعقل مرموقا بعين الفضل، فيصدر منه حالة تكشف عن حقيقة حاله وتشهد عليه بقلة عقله واختلاله.
وقيل: إن إياس بن معاوية القاضي كان من أكابر العقلاء، وكان عقله يهديه إلى سلوك طرق لا يكاد يسلكها من لم يهتد إليها، فكان من جملة الوقائع التي صدرت منه وشهدت له بالعقل الراجع والفكر القادح أنه كان في زمانه رجل مشهور بين الناس بالأمانة، فاتفق أن رجلا أراد أن يحج. فأودع عند ذلك الرجل الأمين كيسا فيه جملة من الذهب، ثم حج فلما عاد من حجه جاء إلى ذلك الرجل وطلب كيسه منه فأنكره وجحده، فجاء إلى القاضي إياس وقص عليه القصة، فقال القاضي: هل أخبرت بذلك أحدا غيري؟ قال: لا. قال: فهل علم الرجل أنك أتيت إلي؟ قال: لا. قال: انصرف وأكتم أمرك، ثم عد إلي بعد غد. فانصرف. ثم إن القاضي دعا ذلك الرجل المستودع فقال: قد حصل عندي أموال كثيرة ورأيت أن أودعها عندك فاذهب وهيىء لها موضعا حصينا. فمضى ذلك الرجل وحضر صاحب الوديعة بعد ذهاب الرجل، فقال له القاضي إياس: امض إلى خصمك واطلب منه وديعتك، فإن جحدك فقل له امض معي إلى القاضي إياس أتحاكم أنا وأنت عنده، فلما جاء إليه دفع إليه وديعته فجاء إلى القاضي وأعلمه بذلك. ثم إن ذلك الرجل المستودع جاء إلى القاضي طامعا في تسليم المال، فسبه القاضي وطرده. وكانت هذه الواقعة مما تدل على عقله وصحة فكره.
ولما مات بعض الخلفاء اختلفت الروم واجتمعت ملوكها. فقال: الآن يشتغل المسلمون بعضهم ببعض، فتمكننا الغرة منهم «٥» والوثبة عليهم، وعقدوا لذلك المشورات، وتراجعوا فيه بالمناظرات، وأجمعوا على أنه فرصة الدهر. وكان رجل منهم من ذوي العقل والمعرفة