الأوطان. ومرّ إياس بن معاوية بمكان، فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: بم عرفت ذلك؟ قال:
بخضوع صوته، وشدة نباح غيره. وأراد أعرابي السفر، فقال لامرأته:
عدّي السنين لغيبتي وتصبّري ... وذري الشهور فإنّهنّ قصار
فأجابته:
فاذكر صبابتنا إليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنّهنّ صغار «١»
فأقام وترك السفر. ويقال: رب ملازم لمهنته فاز ببغيته.
وقال ابن الهيثم:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكنّ أخلاق الرجال تضيق
وفيما ذكرته كفاية، وأسأل الله التوفيق والهداية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الحادي والخمسون في ذكر الغنى وحب المال والافتخار بجمعه
قال الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا
«٢» .
وقيل: الفقر رأس كل بلاء وداعية إلى مقت الناس، وهو مع ذلك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء، فمتى نزل الفقر بالرجل لم يجد بدا من ترك الحياء ومن فقد حياءه فقد مروءته، ومن فقد مروءته مقت، ومن مقت ازدري به، ومن صار كذلك كان كلامه عليه لا له.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر «٣» ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» «٤» . وفي الحديث: «لا خير فيمن لا يحب المال ليصل به رحمه، ويؤدي به أمانته، ويستغني به عن خلق ربه» .
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: الفقر الموت الأكبر.
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر وعذاب القبر.
وقيل: من حفظ دنياه حفظ الأكرمين دينه وعرضه.
قال الشاعر:
لا تلمني إذا وقيت الأواقي ... بالأواقي لماء وجهي واقي «٥»
وقال لقمان لابنه: يا بني أكلت الحنظل وذقت الصبر، فلم أر شيئا أمر من الفقر، فإن افتقرت فلا تحدث به الناس كيلا ينتقصوك، ولكن اسأل الله تعالى من فضله، فمن ذا الذي سأل الله فلم يعطه أو دعاه فلم يجبه أو تضرع إليه فلم يكشف ما به.
وكان العباس رضي الله تعالى عنه يقول: الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس، وهو عندهم أعذب من الماء وأرفع من السماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد، خطؤه صواب وسيئاته حسنات وقوله مقبول، يرفع مجلسه ولا يملّ حديثه، والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، وأثقل من الرصاص، لا يسلم عليه إن قدم ولا يسأل عنه إن غاب، إن حضر أردوه، وإن غاب شتموه، وطن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء، وقراءته تقطع الصلاة.
وقال بعضهم: طلبت الراحة لنفسي فلم أجد لها أروح من ترك ما لا يعنيها، وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أقر من قرين السوء، وشهدت الزحوف وغالبت الأقران فلم أر قرينا أغلب للرجل من المرأة السوء، ونظرت إلى كل ما يذل القوي ويكسره فلم أر شيئا أذل له ولا أكبر من الفاقة.
وكل مقل حين يغدو لحاجة ... إلى كلّ ما يلقى من الناس مذنب
وكانت بنو عميّ يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدما مات مرحب
وقال آخر:
المال يرفع سقفا لا عماد له ... والفقر يهدم بيت العزّ والشرف
وقال آخر:
جروح الليالي ما لهنّ طبيب ... وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب