خطف منك، ولا تدري أنه مثل البازي إن أرسلته أكل وأطعمك، وإن أمسكته لم يصد شيئا واحتجت إلى أن تطعمه، وإلا مات، وأنا والله لو كان عندي علم أنك تنبسط لهذا كنت فعلت معك خيرا كثيرا ولكن ما كان إلا هكذا، وما كان لا كلام فيه والعمل في المستأنف، فيشكره صاحب المال ويسأله أخذ المال فيمطله بتسليمه، فيزداد فيه رغبة إلى أن يسلمه إليه. فيكون حاله كحال المطمع إذا صار المال تحت يده.
وأما المتنسمون: فهم أهل الرياء المظهرون التعفف والنسك ومجانبة الحرام ومواظبة الصلاة والصيام لكي يشتهر ذكرهم عند الخاص والعام، ثم يلقون ذوي الأموال بالبشر والاكرام والتلطف في المقال، ويمشون إلى أبواب الملوك على صفة التهاني بالأعياد، وربما يأتي معه بأحد من الأولاد، ويظهرون النزاهة والغنى، ويجعلون الدين سلما إلى الدنيا، وأكثر أغراضهم أن تودع عندهم الأموال وتفوض إليهم الوصايا، ويجلهم العوام، وتقبل شهادتهم الحكام وتندبهم الملوك إلى الوصايا والأموال، وهؤلاء أشر من اللصوص والقطاع، وذلك أن شهرة اللصوص والقطاع تدعو إلى الاحتراز منهم، وتشبه هؤلاء بأهل الخير يحمل الناس على الاغترار بهم.
قال الشاعر:
صلّى وصام لأمر كان أمّله ... حتى حواه فما صلّى ولا صاما
وقيل: لا فقير أفقر من غني يأمن الفقر.
قال الشاعر:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له: يا بني عليك بطلب العلم، وجمع المال، فإن الناس طائفتان خاصة وعامة، فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال.
وقال بعض الحكماء: إذا افتقر الرجل اتهمه من كان به موثقا، وأساء به الظن من كان ظنه حسنا. ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب بهاؤه، وما من خلة هي للغنى مدح إلا وهي للفقير عيب، فإن كان شجاعا سمي أهوج، وإن كان مؤثرا سمي مفسدا، وإن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقورا سمي بليدا، وإن كان لسنا سمي مهذارا، وإن كان صموتا سمي عييا. قال ابن كثير:
الناس أتباع من دامت له نعم ... والويل للمرء إن زلّت به القدم
المال زين ومن قلّت دراهمه ... حي كمن مات إلّا أنّه صنم
لما رأيت إخلّائي وخالصتي ... والكل مستتر عنيّ ومحتشم
أبدوا جفاء وإعراضا فقلت لهم ... أذنبت ذنبا فقالوا ذنبك العدم «١»
وكان ابن مقلة وزيرا لبعض الخلفاء، فزوّر عنه يهودي كتابا إلى بلاد الكفار وضمنه أمورا من أسرار الدولة، ثم تحيل اليهودي إلى أن وصل الكتاب إلى الخليفة فوقف عليه، وكان عند ابن مقلة حظية هويت هذا اليهودي، فأعطته درجا بخطه، فلم يزل يجتهد حتى حاكى خطه ذلك الخط الذي كان في الدرج، فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر بقطع يد ابن مقلة، وكان ذلك يوم عرفة، وقد لبس خلعة العيد ومضى إلى داره وفي موكبه كل من في الدولة، فلما قطعت يده وأصبح يوم العيد لم يأت أحد إليه ولا توجع له. ثم اتضحت القضية في أثناء النهار للخليفة أنها من جهة اليهودي والجارية فقتلهما أشر قتلة ثم أرسل إلى ابن مقلة أموالا كثيرة وخلعا سنية وندم من فعله واعتذر إليه، فكتب ابن مقلة على باب داره يقول:
تحالف الناس والزمان ... فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا
يا أيّها المعرضون عنّي ... عودوا فقد عاد لي الزمان
ثم أقام بقية عمره يكتب بيده اليسرى. قال بعضهم:
إنما قوة الظهور النقود ... وبها يكمل الفتى ويسود
كم كريم أزرى به الدهر يوما ... ولئيم تسعى إليه الوفود
والأطباء يعلمون أمراضا من علاجها اللعب بالدينار وشرب الأدوية والمساليق التي يغلى فيها الذهب.