منها ونفسي طيبة بذلك، فقال الجندي ما كنت لآخذ على أمانتي مالا، وأبى أن يأخذ شيئا ثم دفعها للطواف جميعها فأخذها ومضى ودخل الطواف وهو من الفقراء وخرج وهو من الأغنياء، اللهم أغن فقرنا ويسر أمرنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وحكي: أن الملك ناصر الدولة من آل حمدان كان يشكو وجع القولنج حتى أعيا الأطباء دواؤه لم يجدوا له شفاء، فدسوا على قتله وأرصدوا له رجلا ومعه خنجر فلما كان في بعض دهاليز القصر وثب عليه ذلك الرجل وضربه بالخنجر فجاءت الضربة أسفل خاصرته فلم تخط المعى الذي فيه القولنج فخرج ما فيه من الخلط فعافاه الله تعالى وبرىء أحسن ما كان. وبضد هذا ما حكاه أبو بكر الطرطوشي قال: حدثنا القاضي أبو مروان الداراني بطرطوشة قال: نزلت قافلة بقرية خربة من أعمال دانية فأووا إلى دار خربة هناك فاستكنوا فيها من الرياح والأمطار واستوقدوا نارهم وسووا معيشتهم، وكان في تلك الخربة حائط مائل قد أشرف على الوقوع، فقال رجل منهم: يا هؤلاء لا تقعدوا تحت هذا الحائط ولا يدخلن أحد في هذه البقعة فأبوا إلا دخولها فاعتزلهم ذلك الرجل وبات خارجا عنهم ولم يقرب ذلك المكان، فأصبحوا في عافية وحملوا على دوابهم، فبينما هم كذلك إذ دخل ذلك الرجل إلى الدار ليقضي حاجته فخر عليه الحائط فمات لوقته. قال وأخبرني أبو القاسم بن حبيش بالموصل قال:
لقد جرت في هذه الدار وأشار إلى دار هناك، قضية عجيبة، قلت: وما هي؟ قال: كان يسكن هذه الدار رجل من التجار ممن يسافر إلى الكوفة في تجارة الخز، فاتفق أنه جعل جميع ما معه من الخز في خرج وحمله على حماره وسار مع القافلة، فلما نزلت القافلة أراد انزال الخرج عن الحمار فثقل عليه فأمر انسانا هناك فأعانه على إنزاله، ثم جلس يأكل فاستدعى ذلك الرجل ليأكل معه فسأله عن أمره فأخبره أنه من أهل الكوفة وأنه خرج لحاجة عرضت له بغير نفقة ولا زاد، فقال له الرجل: كن رفيقي آنس بك وتعينني على سفري ونفقتك ومؤنتك عليّ، فقال له الرجل: وأنا أيضا أختار صحبتك وأرغب في مرافقتك، فسار معه في سفره وخدمه أحسن خدمة إلى أن وصلا إلى تكريت، فنزل الرفقة خارج المدينة ودخل الناس إلى قضاء حوائجهم، فقال التاجر لذلك الرجل: احفظ حوائجنا حتى أدخل المدينة وأشتري ما نحتاج إليه، ثم دخل المدينة وقضى جميع حوائجه ورجع فلم يجد القافلة ولا صاحبه، ورحلت الرفقة ولم ير أحدا فظن أنه لما رحلت الرفقة رحل ذلك الخادم معهم فلم يزل يسير ويجد في السير في المشي إلى أن أدرك القافلة بعد جهد عظيم وتعب شديد، فسألهم عن صاحبه فقالوا ما رأيناه ولا جاء معنا ولكنه ارتحل على أثرك فظننا أنك أمرته، فكرّ الرجل راجعا إلى تكريت وسأل عن الرجل فلم يجد له أثرا ولا سمع له خبرا، فيئس منه ورجع إلى الموصل مسلوب المال فوصلها نهارا فقيرا جائعا عريانا مجهودا فاستحى أن يدخلها نهارا فتشمت به الأعداء، نعوذ بالله من شماتتهم، وخشي أن يحزن الصديق إذا رآه على تلك الحالة، فاستخفى إلى الليل ثم عاد إلى داره فطرق الباب فقيل له:
من هذا؟ قال: فلان، يعني نفسه، فأظهروا له سرورا عظيما وحاجة إليه وقالوا: الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت على ما نحن فيه من الضرورة والحاجة، فإنك أخذت مالك معك وما تركت لنا نفقة كافية، وأطلت سفرك واحتجنا وقد وضعت زوجتك اليوم والله ما وجدنا ما نشتري به شيئا للنفساء، فأتنا بدقيق ودهن نسرج به علينا فلا سراج عندنا، فلما سمع ذلك ازداد غما على غمه وكره أن يخبرهم بحاله فيحزنهم بذلك فأخذ وعاء للدهن ووعاء للدقيق وخرج إلى حانوت أمام داره وكان فيه رجل يبيع الدقيق والزيت والعسل ونحو ذلك، وكان البياع أطفأ سراجه وأغلق حانوته ونام، فناداه فعرفه فأجابه، وشكر الله على سلامته، فقال له: افتح حانوتك واعطنا ما نحتاج إليه من دقيق وعسل ودهن، فنزل البياع إلى حانوته وأوقد المصباح ووقف يزن له ما طلب، فبينما هو كذلك إذ حانت من التاجر التفاتة إلى قعر الحانوت فرأى خرجه الذي هرب به صاحبه فلم يملك نفسه أن وثب إليه والتزمه، وقال يا عدو الله ائتني بمالي، فقال له البياع: ما هذا يا فلان؟ والله ما علمتك متعديا وأنا أبدا ما جنيت عليك ولا على غيرك فما هذا الكلام، قال: هذا خرجي هرب به خادم كان يخدمني وأخذ حماري وجميع مالي، فقال البياع: والله ما لي علم غير أن رجلا ورد علي بعد العشاء واشترى مني عشاءه وأعطاني هذا الخرج فجعلته في حانوتي وديعة إلى حين يصبح، والحمار في دار جارنا والرجل في المسجد نائم، قال له: أحمل معي الخرج وامض بنا إلى الرجل فرفع الخرج على عاتقه ومضى معه إلى المسجد فإذا الرجل نائم في المسجد فوكزه برجله فقام الرجل مرعوبا، فقال مالك؛ قال: أين مالي يا خائن؟